الاختلاف والخلاف من مادة واحدة، ولكن جرت العادة على استخدام الاختلاف فى التنوع والتعدد وتلاقح الأفكار والتدافع بين الآراء واختلاف الحجج والبراهين، ومنه ما يكون بين العلماء من اختلاف فى الرأى وبذل الوسع للانتصار له. أما الخلاف فيكون فى التنازع على الحقوق وتعارض المصالح.
وهذا فى الغالب الأعم، وليس قاعدة مطردة؛ ففى الواقع العملى يمكن أن يستخدم أحد اللفظين للدلالة على مدلول الآخر، فكما كتب الكاتبون عن اختلاف الفقهاء كثيرًا، جاءت بعض الكتب تحمل الخلاف على صدرها للدلالة على الاختلاف كالخلافيات للبيهقى، والتجريد فى المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية للإمام القدورى، وعلى الاستخدام الغالب يكون الاختلاف سنة طبيعية بين الخلق فى الجنس والنوع والصفات الجسدية والميول والعمل وغير ذلك، فيكون الاختلاف محمودًا، ويكون الخلاف مذمومًا لارتباطه بالتنازع والشقاق مع مراعاة ما سبقت الإشارة إليه من أن هذه المعانى على سبيل غلبة الاستعمال، وليس من قبيل الوضع اللغوي.
والذى يعنينا فى هذا المقام أن حوارًا علميًّا حدث فى مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، أشعل مواقع التواصل الاجتماعى وحول الأمر من اختلاف محمود إلى خلاف مذموم، وكأن المؤتمر انعقد لهذا الغرض! وكأن العلماء الذين توافدوا على مقر المؤتمر من دول العالم الإسلامى جاءوا ليتابعوا هذا الحوار بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والدكتور الخشت فقط! وكأن القضايا العديدة فى مجالات الفكر والسياسة والأمن المجتمعى والأسرة والمجتمع والتى انتهى فيها المؤتمر إلى إقرار النتائج التجديدية التى اعتمدها الأزهر من خلال هيئة كبار علمائه وباحثيه قبل عرضها على علماء العالم الإسلامى فى رحابه؛ كأن هذه القضايا اختفت من برنامج المؤتمر وحل محلها هذا الحوار الذى تعلق بمداخلة من أربع مداخلات فى جلسة من سبع جلسات هى جملة جلسات المؤتمر! ناهيك بوثيقتين أصدرهما الأزهر وصدَّق عليهما العلماء الذين شاركوا فى أعمال المؤتمر: إحداهما ترسم خارطة لتجديد الخطاب الدعوى صاغها الأزهر بعد جلسات عدة مع الوزارات المعنية ومؤسسات المجتمع المدنى والمثقفين وأطياف المجتمع المصرى كافة. والثانية وثيقة فى غاية الأهمية تعلن بجلاء ووضوح تحريم دماء وأعراض وأموال الناس بصفة عامة دون نظر إلى دين أو مذهب أو عِرق، وتحريم القتل على الهوية، وأن الدم لا يحل إلا فى قتال لرد عدوان أو كعقوبة على جريمة يحكم بها القضاء وتنفذها جهة الاختصاص، وتحريم التكفير للغير أفرادًا أو جماعات، وأن التكفير يتعلق بالخلل العقدى، وأنه لا يكون إلا بحكم قضائى ولا يملكه فرد أو جماعة أو مؤسسة، وأن الأعمال القتالية لا تكون إلا بقرار من الدولة، وأنه ليس من حق جماعة خوض قتال بدعوى الجهاد، وأن الأصل فى التعايش بين البشر هو السلام... إلخ، ولا شك أن فى هذا إغلاقًا لأبواب المزايدات وتحميل المؤسسات والعلماء ما هم منه براء.
إن ما شمله البيان الختامى للمؤتمر من نتائج غاية فى الأهمية، وما صدر عنه من وثائق وإعلان عن مركز للتجديد والتراث، واستمرار للجهود التجديدية فى موضوعات اقتصادية وطبية وغيرها بالتنسيق بين الأزهر وجهات الاختصاص العلمى فيها، وإعلان نتائجها فى مؤتمرات وفعاليات قادمة؛ كل ذلك يمكن أن يغطى مساحات واسعة لفترات طويلة من النقاش والحوار من خلال النوافذ الإعلامية والأوساط الثقافية والعلمية، ويمكن من خلال التناول الجاد الكشف عن مزيد من القضايا التى تحتاج إلى جهود تجديدية يتلقفها الأزهر والمؤسسات المعنية بالبحث والدرس للخروج فيها بالرأى النافع للناس والمنضبط بقواعد وأسس التجديد.
وفى الأيام الماضية بعد المؤتمر تبين لى قضية تحتاج إلى جهود كبيرة لتصحيح ثقافة كثير من الناس فيها من خلال تناولهم لهذا الحوار الاختلافى بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والدكتور الخشت، ألا وهى ثقافة الاختلاف؛ فالموضوع بالنسبة للعارفين بثقافة الاختلاف هو حوار علمى يعبر عن مدرستين مختلفتين فى رؤيتهما لتجديد الفكر الدينى، وقد دار بين الرجلين بأدب جم؛ حيث كان الدكتور الخشت على المنصة يطرح رؤيته والإمام الأكبر شيخ الأزهر بين ضيوفه الحضور وقد طلب مداخلة يملكها كل فرد من الحضور، عبر فيها عن معرفته وصلته القديمة بالدكتور الخشت، وداعبه فى مستهلها، وكرر فيها ألفاظًا يعرفها الجميع عن الإمام الطيب من احترام وتقدير للغير كقوله سيدى وحضرتك... إلخ، ثم عبر عن رؤية المؤسسة الأزهرية وعلمائها فى مقابل ما أعلنه الدكتور الخشت من رؤيته للتجديد.
وإذا كان من حق الدكتور الخشت أن يعبر عن رؤيته بكامل حرية فى رحاب الأزهر الذى يقوم على الرأى والرأى الآخر فى مناهجه اللغوية، والعقدية، والفقهية، وتتعدد مدارس علومه فى التفسير والحديث والفلسفة وغيرها؛ فمن حق الإمام الأكبر شيخ الأزهر أن يعبر عن رأيه ورأى مؤسسته ليقف المتابعون والسامعون على وجهتى النظر لا أكثر، ولا علاقة لهذا بإكرام الضيف وعدمه، فإذا كان الدكتور الخشت ضيفًا على الأزهر من حيث المكان، فالأزهر ينظر إلى جميع الحضور على أنهم شركاء فى مؤتمره، ومن الناحية العلمية والفكرية فإن الدكتور الخشت وسائر العلماء الحضور أصحاب مكان، وإن كان الاختلاف بين العلماء من الإخلال بأصول الضيافة من وجهة نظر البعض، فإن فقهاء السلف أبعد ما يكونون عنها بالنظر إلى ما كان بينهم من اختلاف كثير وعميق!
لقد كان من المنتظر أن يكون التناول من قبل المهتمين بالأمر مركزًا على الوجهتين مؤيدًا أو ناقدًا كلٌّ حسب قناعاته، وليس تحويل الأمر وكأنه صدام، ليكون كثير من الناس ملكيين أكثر من الملك نفسه! فلم يحتد الإمام ولم ينفعل، بل كان حديثه هادئًا علميًّا مجردًا، وقد اكتفى بهذا؛ فلم يكن له أى تعليق بعد المداخلة، وفى نهاية الجلسة رحب بضيفه ودعاه إلى تناول الغداء معه هو وضيوفه؛ حيث يحرص على أن يكون بينهم فى أثناء تناولهم الغداء، ولا ينصرف إلا معهم فى كل مؤتمر يعقده الأزهر، وقد ظهر الدكتور الخشت فى بعض القنوات، وأصدر بيانًا، ونشر كلمته، وكل ما تابعته دل دلالة واضحة على إدراك الرجل لطبيعة الاختلاف، ورفض رفضًا قاطعًا اعتبار الأمر خلافًا بينه وبين فضيلة الإمام الأكبر، وهذا هو شأن العلماء، وليت التناول من قبل المهتمين بالأمر يركز على بيان الاختلاف وانتصار المتناول لما يؤيده من المنهجين دون تحويل الأمر إلى خلاف وتنازع وتناول للأشخاص، وربما ذريعة لتصفية حسابات!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة