مثل مفهوم الدولة الجزء الأكبر من كتابات فقهاء القانون العام، حتى اختلفوا فى تعريف يحدد ماهيّة المُعرّف تحديدًا واضحًا؛ إلا أنّه بالاستقراء يمكن أن نقول: الدولة عبارة عن مجموعة بشرية، مستقرّة على أرض معيّنة، تتبع نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا معينًا يهدف إلى الصالح العام، ويستند إلى سلطة لها السيادة.
ولكى تستقرّ الدولة ويطلق عليها اسم دولة لابدّ لها من أركان هى: «الشعب، الأرض، السلطة، الدستور»، فلا يمكن تصوّر دولة بدون تحقق هذه الأركان.
الشعب يمثّل الاجتماع البشرى، والأرض تمثّل الإقليم الذى له حدود وثغور، والسلطة وهى التى تمتلك القوة وصلاحيات الدفاع عن الأرض وحفظ النظام العام، والدستور الذى يمثّل العقد الاجتماعى بين المواطنين داخل حدود هذه الدولة أو خارجها.
وقد انتقل النبى الأكرم ولم يضع نظامًا معيّنًا للحكم يمكن أن نسميه هو النظام الإسلامى، والخروج عليه خروج على الإسلام، لكنه أسس لفكرة دولة المؤسسات بأن وحد العرب تحت مظلة حكمه، وأسس لفكرة الدستور بأن وضع وثيقة المدينة، ورسائله للأمم الأخرى، وأسس لمبدأ الشورى لنبذ العصبيّة القبليّة.
ولكى يستقيم أمر الدول لابدّ من وجود سلطات ثلاث: السلطة التشريعيّة، ووظيفتها سنّ القوانين التى تحفظ النظام العام، والسلطة القضائية، ووظيفتها الفصل فى الخصومات والنزاعات، والسلطة التنفيذيّة التى تملك القوّة التى بها تحفظ النظام، وقد كانت الدول فى القديم تجمع السلطات الثلاث بيد الحاكم الواحد تحت مسمى السلطان، أو الخليفة، أو أمير المؤمنين.. وهكذا.
ولأنّ التطور الدائم هو صفة العنصر البشرى ارتضى الناس فكرة الدولة الحديثة بما تُحتّم الفصل بين السلطات، وتجعل للدولة الحديثة حدودًا تفصلها عن غيرها تسميها حدودًا أو ثغورًا لها مواثيق ومعاهدات، وفكرة الحدود السياسيّة بين الدول ظاهرة من ظواهر الدولة الحديثة وأحد تجلياتها الواضحة.وفى السياق المعاصر نجد على ألسنة الجماعات المتطرفة بعض العبارات التى تحمل السخط والغضب على فكرة الحدود بين الدول، والنداء الدائم بإزالة تلك الحدود كما كان العهد فى السابق قبل فكرة الدولة الحديثة القُطرية، ومثل هذه النداءات ما هى إلا صيحات عاطفية؛ ذلك أنهم يتمثلون تبريرًا واحدًا، قوامُه أنّ الحدود بهذا الشكل لم تكن فى تاريخ الإسلام والخلافة وفعلها بهذا الشكل يخالف الإسلام.
والحقيقة أنّ هذا الكلام غير صحيح من وجوه:
الوجه الأول: أنّه فى القديم كانت السلطات كلّها بيد الحاكم وحده، وفى التطوّر البشرى تمّ الارتضاء على الفصل بين السلطات، وهو ما لم نجد له مخالفًا، حتى ألف كثير من العلماء كالإمام القرافى وغيره رسائل فى تصرفات الرسول على جهة الإمامة، وتصرفاته على جهة القضاء، وتصرفاته على جهة الفتيا، وتصرفاته على جهة النبوّة والرسالة، وحتى تصرفاته على جهة البشرية والطبع، ففكرة التفريق بين المسارات المختلفة واردة حتى على الجناب النبوى.
الوجه الثانى: أن فكرة إنشاء الحدود بين الدول فى الوقت الحاضر لها وظائف لا يمكن تحققها بغير وجود الحدود وهى وظائف شرعية معتبرة، كالدفاع عن الدولة وتوفير الأمن، ومراقبة وتنظيم انتقال الأفراد بما يتيح منع الأشخاص الخطرين على الأمن القومى، وحماية وتنظيم التبادل الاقتصادى بين الدول، كل هذه أغراض شرعية لا تخالف الشرع بل هى معتبرة فى الشرع الشريف.
فبالتالى يمكننا أن نستخلص نتيجة مهمة بعد العرض المتقدّم، وهى أنّ الدولة بشكلها الحديث لا تخالف الشرع الإسلامى كما يُروّج لذلك المتطرفون، كما أنّ حدودها ليست أصنام تُعبد كما يروجون لذلك أيضًا، بل هى ضرورة لحماية الأرض وإقامة الأمن وهما مقصدان شرعيّان لا يخالف فى ذلك أحد وللحديث بقية.
فنسأل الله أن يحمى حدودنا وأوطاننا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة