نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) البحث في أصول العرب وقراءة تاريخهم خاصة قبل الإسلام، وذلك من خلال كتابه المهم "تاريخ العرب قبل الإسلام" والذى صدر في سنة 1969، ونتوقف عند أثر التوراة على روايات أهل الأنساب والأخبار فى أنساب العرب.
يقول "جواد على": وقد رأيت أن مروجيه ومدخليه بين العرب هم أهل الكتاب، ومعظمهم من يهود أو من مسلمة يهود، لهذا ترى أسانيد أكثر هذه الروايات تنتهى بـ"كعب الأحبار" و"وهب بن منبه" وأضرابهما، وقد ينتهى السند بـ"ابن عباس"، من طريق "ابن الكلبى" عن أبيه، عن أبى صالح. وللعلماء كلام فى هذا السند و"ابن الكلبي" مورد مشهور معروف فى هذه الموضوعات، لا يقابله فى ذلك إلا "ابن إسحاق" الذى غرف، كما ذكرت فى أول هذا الفصل، من مناهل أهل الكتاب، وكان يسميهم أهل العلم الأول، فملأ كتابه لذلك بغث كثير، لاعتماده على هؤلاء وتوثيقه لهم، ولم يكن لأكثرهم كما يظهر من نقد ما نسب إليهم علم بما جاء فى التوراة، وبكتب اليهود الأخرى.
وقد ظهر لى من دراساتى لهذا الموضوع وللقصص الإسرائيلى عامة أن كثيرًا من هذا الذى يرويه أهل الأخبار فى النسب وفى القصص، بعيد عما يرد فى التوراة، وقد اخترع اختراعًا وصنع بغباوة وبجهل، وحُشى بألفاظ عبرانية أو قريبة منها، بطريقة مضحكة أحيانا، تدل على خبث واضع الخبر أو جهله، وعلى سذاجة الناقل عنه وعلى عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على الأخبار، ولذلك كان لا يهمه إلا جمع الأخبار وقصها للناس، وقد يكون هو واضع تلك الأخبار وصانع ذلك القصص.
وقد ذكر "الطبري" فى تأريخه حديثًا يرجع سنده إلى رسول الله، فى أبناء نوح، زعم أن الرسول قال "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش" ذكره بصور مختلفة، فيها تقديم وتأخير، أو زيادة فى بعض الألفاظ، ويتصل أسانيد هذا الحديث بمختلف صور رواياته إلى سند واحد، هو: "سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن الرسول".
وهناك أحاديث وردت فى موضوع نسب عدنان، فيها نهى عن تجاوز ما وراء ذلك، وهى وأمثالها يجب أن تكون موضع دراسة مستقلة حقا؛ لنرى سلاسل سندها، ومقدار قربها أو بعدها من حديث الرسول. فعلى مثل هذه الدراسة نستطيع أن نبنى أحكامًا فى موضوع رأى النسابين فى نسب العرب فى أيام الرسول.
ولا بد لى هنا من التنبيه على أن "محمد بن إسحاق بن يسار" صاحب المغازى والسير، هو -كما قلت مرارا- من الآخذين عن أهل الكتاب، الراوين عنهم، وكان يسميهم أهل العلم الأول، وهم بالطبع من هذه الناحية أعلم من غيرهم بأمور التوراة والإنجيل، بحكم كونهم يهودًا أو نصارى، ولهذا نجد المؤرخين والأخباريين يروون ما ورد من قصص توراتى ومن أنساب توراتية عن "ابن إسحاق"، فهو إذن أحد الناشرين للإسرائيليات بين المسلمين، والقصص الإسرائيلى الذى نشره، ليس فى الواقع قصصا إسرائيليا صافيا خاليا من الكدرة، بل هو متفاوت فى درجات النقاء والصفاء؛ فيه العكر، وفيه ما هو قريب مما جاء فى التوراة، وفيه ما هو مطابق لما جاء فى "العهد القديم"، فهو نقى صافٍ.
ويعود سبب هذا الاختلاف إلى الموارد التى استقى منها "ابن إسحاق" علمه ففيها منابع كانت ذات علم ووقوف على كتب أهل الكتاب، وفيها موارد مدعية أو ليس لها حظ من العلم، وإنما تحدثت إليه على نحو ما كان شائعا بين أهل الكتاب، وبينها موارد استباحت الكذب، ادعاء للعلم ولأسباب أخرى، ومن هنا اختلفت موارد "ابن إسحاق" فى درجات النقاء والصفاء.
و"هشام بن محمد بن السائب الكلبي" هو من الآخذين عن أهل الكتاب كذلك، المدخلين للإسرائيليات ولأنساب التوراة إلى المسلمين. وهناك نفر آخرون أخذوا عن أهل الكتاب أيضا، يخرجنا ذكر أسمائهم هنا عن صلب الموضوع؛ ولهذا اكتفيت بذكر هذين الرجلين، لما لهما من أثر بارز فيمن جاء بعدهما فى موضوع الإسرائيليات وأنساب التوراة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة