فى مساء الخميس الماضى، ونحن فى أجواء نعى العالم الاكاديمي والمفكر الجليل، الأديب والمترجم، سليمان العطار، عليه رحمة الله، الذى فارق عالمنا فى الثانى عشر من مارس الجاري، فكان خبر موته فاجعة موحشة استقبلتها صدمة، صرخة بنبرات يكسوها البكاء والرثاء، احببته من حكايات تلميذته النجيبة، صديقتى الدكتورة سحر عبد المجيد، كانت تحدثني وكأنه إنسان يطوف بمحبة في محراب العلم والإنسانية والمباديء، لم يحالفنى الحظ أن ألتقى به مرة، فكان موته خير مؤكد لى بعض ما أدركتُ من قيمة الرجل، وأثره الفكري والحضاري والثقافي على المستوى الإنساني والأخلاقي، وجدته في حب تلاميذه، وإن تحولت السوشيال ميديا فجأة بمنصاتها لدفتر عزاء ينعونه ويجبلونه ، فكان دليلا على أن علاقته بالوسط الثقافى والآكاديمى والنقدى مجردة من الشوائب والمصالح.
كانت معرفتى الفكرية باسم سليمان العطار سبقت ذلك العزاء بوقت كبير جدًا، كنتُ فى بداية قرائتى للرواية الأجنبية المترجمة عندما تعرفت على عالم ماركيز من خلال ترجمة سليمان العطار لرواية مئة عام من العزلة فكان أول من فتح لى باب الأدب العالمى وأخد بيدى للأعمال المترجمة، كان الراحل أول من ترجم إلى العربية من الإسبانية مباشرة رواية "مئة عام من العزلة" لجابريل جارسيا ماركيز، وأنهى ترجمتها قبل أن يحصل مؤلفها على جائزة نوبل فى الآداب عام 1982، وذلك وقت أن شغل وظيفة مستشار ثقافى لجمهورية مصر العربية لدى مملكة إسبانيا
بعدها التصق الاسم بمخيلتى إلى أن اقتنيت كتاب "الخيال عند ابن عربي" الصادر عن دار الثقافة عام 1989 وإذا به مزدان بتأليف دكتور سليمان العطار هنا أخذ اسم المؤلف والمترجم ركنا قصى فى الذاكرة لأسلوب سلس ورؤية عميقة ولغة رشيقة وفكر مستنير، عرفته من خلال السطور والصفحات التى بفضلهما اتضحت لى معالم أفكار وملامح ورؤى، ضبطت لي الكثير من المفاهيم في عقلي، قارئ جديد للثقافة قليل الخبرة، قبل أن يكون صحفيا يميز الخبيث من الطيب وسط ركام من الفوضى والارتباك، حتى عرفت مؤلفاته عن قرب من بين دراسات الأدب المقارن و الشعبى والفلكور والتصوف والأدب الجاهلي، والأندلس والحضارة ومن بين أبرز مؤلفاته: " الخيال عند ابن عربي"، و"مقدمة فى تاريخ الأدب العربي: دراسة فى بنية العقل العربي" و"مقدمة منهجية لدراسة الأدب العربي" والموتيف فى الأدب الشعبى والفردى "نحو منهجية جديدة.
كانت مقدمة ترجمة رواية مئة عام من العزلة التى خطها الراحل بيده تشى بكثير من العمق، كأحد قوارب النجاة فى عالم القراءة، بلا خداع أو أوهام، فى وقت كان من السهل جدًا التعلق بترجمات عقيمة ومن ثم تحكم على العمل بأنه غير جيد كون الترجمة غير شهية أو مستساغة، يقول سليمان العطار فى مقدمة الرواية: "لقد قمت بترجمة هذا العمل الروائى الفذ منذ سنوات طويلة "1979 - 1980"، وأذكر كيف أسرتنى هذه الرواية بشكل فريد، إذ لم يحدث لى أن شعرت بهذه المشاعر المكثفة والتى تضيء بداخلى إلى حد الإحساس باحتراق كثير من الأعمال القصصية والشعرية السابقة عليها مثل زيت يمد تلك المشاعر بالوقود لتزداد كثافة و"انضياء."
وأهم ما وجدتُه فى فكر الرجل من خلال مؤلفاته الإعلاء من قيمة الحوار الهادئ العقلانى المرن، والانحياز إلى العقل والمعرفة، والإيمان بالتطور والتجديد، ونبذ الجهل والتبعية والسعى وراء الإبداع، فيقول فى مقولته الشهيرة وكأنه يلخص المشهد العبثى للقارئ العربى: من صور العبودية فى العالم الثالث أو بعبارة أخرى العالم المتخلف يترسخ ألعن أنواع العبودية، وهى العبودية التى تأسر الفرد وتكسر المجتمع إنها العبودية للأفكار الموروثة محليا والموروثة المستوردة، والعبيد لا يبدعون ولا يخترعون بل يستهلكون إبداع غيرهم ومخترعاته على هيئة أطواق فى رقبتهم. هكذا قال سليمان العطار وترك لنا جيلا من الأساتذة والتلامذة وحملة التنوير بما يدل على خلود الرجل.
ومن هنا أناشد الأستاذ الدكتور جمال الشاذلى عميد كلية الآداب جامعة القاهرة والأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس الجامعة، تخليد اسم الراحل العالم الجليل المفكر الدكتور سليمان العطار كأحد رموز جامعة القاهرة من خلال إقامة حفل تأبين بحضور قادة الفكرالعربى وأن يطلق اسمه على أحد مدرجات كلية الآداب