زمان .. فى ريفنا المصرى الغض الندى كانت القناعة والرضا زاد للجميع، وكانت القلوب صافية من الغل والحقد والكراهية، ولم تعرف الضغينة يوما طريقها أبدا مهما كانت المصائب والنوائب، ولم لا وقد عمرت تلك القلوب بالحب والإيثار، ومساعدة الآخرين، وإن كانوا فى مكان ناء بأقاصى القرية، ولا أحد ينسى ذلك المنظر المألوف والنبيل عندما كان الناس يتجمعون قبيل مدفع الإفطار فى رمضان، يتسامرون فى كل ما هو خير للجميع، وكانوا يتراصون فى المساجد ليلا، القلوب كما الأجسام فى بنيان واحد، أما الآن فالتنافر عنوان حى لملامح القرية المصرية، وواقعى لدرجة أن البغص قطع كل الأواصر والجسور التى كانت، وما كان من علاقات طيبة تسكن بيوتنا الطينية المتواضعة.
والسؤال المطروح الآن: متى يعود الريف إلى أزمانه الوارفة واليانعة، وأدناها الحب الذى افتقدناه والإخلاص الذى أصبح عملة نادرة فى هذا الزمن الغريب والعجيب فى تصاريفه وأفعاله؟!، فبالأمس القريب كان الريف المصرى كما يقولون هو مصنع القيم والأخلاق الرفيعة المستمدة من طين الأرض والطبيعة الساحرة المحركة للخيال الخصب العفى، نعم كانت هنا بهجة الجمال والهدوء والسكينة، بعيدا عن صخب وضوضاء العاصمة وزحام الشوارع الخانقة بالأتربة والملوثات، جراء دخان المقاهى والمطاعم والقمامة المتراكمة فى الأزقة والحارات، والتلوث السمعى والبصرى والبيئى حدث ولا حرج عبر كلاكسات السيارات ونداءات الباعة الجائلين، وصخب المتسوقين فى الأسواق أيضا.
زمان .. كان جميع الناس فى قرانا التى عاشت على الفطرة طويلا يعرفون بعضهم بالاسم، كلنا عائلة واحدة، الخير فى جميع الدور البسيطة المتواضعة فى أثاثها، الثرية فى عطفها وحنانها، فالفقير لا يشعر بفقره، والغنى أيضا لا يشعر بغناه، فالنفوس لم تكن تتغير أبدا فى وقت الوفرة عند البعض والشح عند البعض الآخر، الجميع يحتوى بعضه بعضا، يعطف كلانا على الآخر دون خدش كرامة، فضلا عن أن الريف المصرى كان معروفا بتمسكه الشديد بالعادات والتقاليد الرصينة التى تربت عليها أجيال كثيرة، ولقد نشأنا نفتخر بها ونعتز بها أيما اعتزاز، وقت أن كان تاج رأس الفلاح المصرى هو ما يتمتع به من أخلاق حسنة وشهامة و طيبة ونبل ليس له مثيل.
ومن مظاهر تلك الأخلاق كرم الضيافة بما تحويه هذه الكلمة من معنى، دون خوض فى تفاصيل لاداعى للاستطراد فيها، منها احترام الكبير وتوقير الجار ومراعاة حقوقه لدرجة أن الأفراح لم تكن تقام أو أى مظهر من مظاهر البهجة طالما حل بأحد عائلات القرية خطب أو ملمة، ناهيك عن احترام المرأة وعدم التعرض لها بأى سوء حتى وإن أساءت، كان بين الفلاحين تكامل لا يمكن وصفه، فالمرأة الريفية عينها على جيرانها ممن لا يملكون خير مثلها، كان الجميع بمثابة أهل بيت واحد تسوده السكينة والهدوء، فلا تسمع لفظا خارجا أو سبا أو قذفا، أو أى نوع من المعاملة الخشنة التى وصلت الآن إلى حد ارتكاب الجرائم دون وازع من ضمير وللأسف تقع من أقرب الناس، والأنكى من كل ذلك أنها تجد طريقها للنشر على صفحات التواصل الاجتماعى التى أصبحت تتفن فى نشر فضائحنا "لايف" وعلى الهواء مباشرة.
لقد هالنى ما حدث الأسبوع الماضى فى قرية قريبة من قريتنا تسمى "أبو ذكرى" التابعة لمركز ومدينه منيه النصر دقهلية، حيث شاهدت فيديو مصور على الفيس بوك لأم من تلك القرية وهى تعلق ابنتها على سطوح بيتها، والبنت عارية تماما فى عز موجة البرد والصقيع التى مرت على البلاد، ولقد انخلع قلبى عندما سمعت نداء البنت راجية أمها (والنبى يا ماما هاتيلى الهدوم)، والمعضلة فى الأمر أن أحد لا يجرؤ على ردع تلك الأم القاسية، لأنها سترد عليه مباشرة بألفاظ خارجة وخادشة للحياء - بحسب الفيديو المنشور الذى يحتوى عينة من تلك الشتائم لايف - حتى عجب جيرانها وأصابتهم الدهشة والحيرة من ترديدها تلك الألفاظ ليل نهار، دون أن تجد من يردعها أو يوقف سيل شتائمها التى تبدأ مع الصباح وتنتهى فى الليل.
لقد اعتادت تلك الأم - منزوعة الرحمة - على أن تصعد ببناتها إلى سطوح البيت، وتتعمد أن تغرقهم بماء بارد من الخزان وتتركهم عرايا، وإذا عطفت عليهم ليلا تجعلهم يبيتون قسرا بحجرة صغيرة مخصصة لتربية الدواجن، قلوب الجيران تتقطع إربا إربا أمام جبروت امرأة لا تعرف أى معان للإنسانية فى تعاملها السيئ مع فلذات أكبداها، حتى عجز أهل القرية عن فعل شيء، فبدلا من أن يستيقظ الواحد منهم من نومه ويفتح نافذته ليرى إشراق صباح ندى معتق بالندى الصباح، أو يتنفس هواء الأرض الزراعية النابع من تلك اللوحة الخضراء التى أبدعها المولى عز وجل فى أروع صورها، يستيقظ على مشهد بنت صغيرة ترتجف رعبا وفزعا.
وبدلا من أن يسمع الجيران العصافير وهى تهدى زقزقاتها المبهجة، يسمع نحيبا وعويلا مرا من جانب تلك الفتاة المسكينة، وهى تسبح فى رحاب سلاسل من الرعب المتتالى، بدلا من أن تسرح بخيالها البرئ من شرفة غرفتها وهى ترتدى ملابس دافئة فى عز شتاء قارس مع أسراب البط والأوز وهى تسبح فى أمان بترعة القرية، وتنعم بالأشجار وهى تفيض بثمارها للقريب والغريب، حتى الهواء أصبح له رائحة الفزع فى نفس تلك البنت وأخواتها المغلوبين على أمرهم بفعل جبروت أمهم، وهن اللاتى اعتدن من قبل أن يشتممن رائحة هواء قريتهم مبهجة تشفى النفوس، والندى وهو يعانق أوراق الورد بحب فى كل صباح جديد مفعم بالسعادة والرضا.
لقد فجر هذا الفيديو فى نفسى ونفس كل من شاهده أسئلة بحجم الكون كله عن حال القرية المصرية التى كانت مصدر للأمن والأمان، بعدما تحولت إلى خزائن من الرعب والفزع فى عصر التكنولوجيا، أين ذلك اليوم الذى كنا نصحو فيه فى الصباح الباكر، حيث يخرج الفلاحون لأراضيهم، يجرون أبقارهم وجاموسهم إلى الحقول، ولديهم تصميم ويقين راسخ بالخير القادم بعد بذل كل الجهد والعرق فى يومهم، جميعهم يؤمنون بالحكمة الفلاحية الخالدة (على قد ما تتعب فى الأرض هتديك)، لذا اعتادوا أن يذهبوا كل يوم دون كلل أو ملل، فالأرض عرض وهى جالبة الرزق لا محالة.
وهم فى ذلك يتعهدون بصيانتها ويتعهدونها بالحب وبالرعاية والعناية، ويهتمون أيضاً بمواشيهم، ومن الطرائف المثيرة للانتباه فى ذلك الزمان أن كل فلاح كان يسمى بقرته أو جاموسته باسم معين، فيناديها فتعرف صوته فتأتيه، لتحلب زوجته أو ابنته البقرة أو الجاموسة ويشربون الحليب الطازج الشهى، وكم من مرة شربت معهم من نفس "الطاجن" حتى ارتويت من ذلك الشهد المصفى الذى ينعش القلب ويريح الأعصاب، ويشعرك بالشبع.
إن الحب لا يباع ولا يشترى كى نمنحه لتلك الأم القاسية، لكنه كان راسخا رسوخ الجبال فى الريف، هذه ليست أشجار عنب أو مانجو فحسب، بل إنها أشجار النخيل ثروتها حب، جذورها فى أعماقنا، وثمارها الحقيقية هم أهل الريف، وكان الريف المصرى يقف على قدمين ثابتتين فى التعاون والتكامل، فلا تجد فلاحا يعمل فى أرضه بمفرده بل الجميع مع الجميع فى أرض الجميع، نزرع ونقلع سوياً، ونسقى ونحرث سويا، ونتشارك أفراحنا وأتراحنا ، فتهون المصائب، وفى الأفراح كتف بكتف، عندها تزداد البهجة والسرور بمشاركة الأهل والخلان، رغم الكفاف كان العفاف، ورغم ضيق ذات اليد كانت بالخير تمتد، رغم البيوت البسيطة إلا أنها ممتلئة بالحفاوة، يد الفلاح جافة خشنة إلا أنها لينة الطلب تربت على حسن الأدب، وخاصة النساء.
كانت القرية المصرية مضرب الأمثال فى الأخلاق والفضيلة والتلاحم والأمان والكرم واحترام الكبير والعطف على الصغير، وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج، لكنها الآن - للأسف - لم تنج كغيرها من تشويه كل ما هو جميل، وإذا طالعت أخبار الحوادث ستجد حضورا مؤثرا للقرية فيها، فما من يوم يمر دون حادث كبير بإحدى القرى يزيل كل ما عرف عنها من أخلاق وتمسك بالقيم النبيلة، والعادات الأصيلة، ويجعلها تتفوق أحياناً على المدن فى الإجرام وقلة الضمير، تماما مثل جريمة بنت قرية "أبو ذكري" وأخواتها اللاتى صرخن ومازالن يصرخن دون أن يسمعهن أحد.
من مآثر القول أنه تردد على مسامع أبناء جيلى حكايات كثيرة تعبر عن علاقات "الود والحب والوئام" التى كانت تسود بين أهالينا من أبناء القرى الطيبين، بل وعايشت بنفسى حكايات كهذه، فما زالت جلسات الصيف والسمر والشاى بيننا وبين جيراننا حاضرة فى مخيلتى، نتشارك جميعا الهموم والأفراح معا.. وما يحز فى نفسى وفى نفس كل أبناء جيلى ويوجع فى الوقت ذاته القلب والأعصاب، أنك لا تجد شيئاً من هذا إلا القليل النادر- أن وجد من الأساس - وذلك بعد أن زحفت علينا جيوش التكنولوجيا وجرفت ملامح حياتنا البسيطة فى ريفنا الذى أصبح ساحات مشرعة على الخراب والغضب والكراهية حتى لأحب الناس لقلوبنا.
أقول ذلك وأنا أقف حزينا متباكيا على ما كان وما أصبحنا عليه الآن، بعدما أصبحنا فى زمن أساءت الأم لبناتها، وزحفت وسائل التواصل على الانترنت فى بيوتها ترعى كدودة القطن التى تلتهم الأوراق واللوز قبل نضج الثمار، بعدما تمدينت، وياليتها تمدينت وظلت محافظة على ريفيتها، فرغم البنايات العالية والفيلل الأنيقة - المكسوة جدرانها الخارجية بالسيراميك فى ظاهرة عجيبة كما شاهدت مؤخرا - والسيارات الفارهة والثياب الفخمة المعطرة والأحذية اللامعة والبارفانات الباريسية المستوردة، وأشجار الزينة المنمقة ومداخل البيوت المزخرفة بالورود، إلا أن شيئا مما سبق لم يعد له أثر فى نفوس الكبار والصغار على حد سواء.
تربيت فلاحا وسأبقى فلاحا ما حييت، ولا يزال الشوق والحنين للزمن الذى مضى ينتابنى ولا يفارق خيالى الذى كله التعب، فهل أجد من أبناء قريتنا وكل قرانا الريفية الأصيلة من يعيد لها مجدها ويرفع عن وجهها آثار التمدين البغيض ويرفق بحال بنات "أبو ذكري"، ونرجع سويا بسطاء أنقياء كما كنا؟..رحم الله أخلاق القرية التى كانت.. ورحم الله آباءنا وأجدادنا الذين باتوا يلعنون من أحفادهم الآن، فكم كانت علاقات الناس فى زمانهم مثالا للطهر والنقاء والصفاء والمحبة، يتقاسمون الطعام والشراب، كل يرسل لجاره ما يطبخه فى بيته، ولا يمانع فى أخذ شيء من طعامه.
لقد صار العنف يملأ قلوب الكثيرين من أبناء القرى، خاصة بين جيران "الحيط فى الحيط"، فأصبحت نفوسهم مريضة، تحتاج إلى إعادة تأهيل كى تندمج وتنسجم فى المجتمع من جديد، وحتى لا تصير كالعضو الفاسد داخل الجسد.. ربما أفسد الجسد كله.. رحم الله زمنا كنا نتعامل فيه بحب وإخلاص، دون أذى، فلا تجد بيننا جائعاً أو محروماً.. فالجميع وقتها كانوا "أصحاب بيوت"، كما كنا نقول ذلك فى أمثالنا العامية، ويبقى علينا الآن غرس قيم الحب والصفاء والتسامح فى نفوس الأبناء - ومن قبلهم تلك الأم القاسية - مرة أخرى، حتى تعود "أخلاق القرية"، وينعم أهلها ببركات من السماء والأرض.. قبل الوقوع فى دائرة الخطر.