نقرأ معًا كتاب "الانتخابات والأحزاب السياسية الأمريكية: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف إل ساندي مايسل، ترجمة خالد غريب على، مراجعة محمد فتحي خضر.
يقول الكتاب "قليل من الأمريكيين، بل وقليل للغاية من مواطنى الدول الأخرى، يتفهمون العملية الانتخابية فى الولايات المتحدة، إن نسب المشاركة في الانتخابات في الولايات المتحدة تتسم بالتدنى البالغ مقارنة بغالبية الدول الديمقراطية الناضجة، وربما يكون سبب هذا هو قلة المنافسة في أرجاء البلاد في ظل تمتع حزبين فقط بفرص حقيقية للفوز، رغم حقيقة أن عددًا كبيرًا من المواطنين لا يدينون بالولاء لأي من هذين الحزبين، بل وينظرون إليهما نظرة سوء.
هذه المقدمة القصيرة جدًّا تعرِّف القارئ بهذه القضايا وغيرها، وتقدم نظرة مطلعة على الطريقة التي يعمل بها نظام الانتخابات الأمريكية فعليًّا، إضافة إلى إلقاء الضوء على بعض مثالبه.
حذَّر جيمس ماديسون، الذي يُنسب إليه في أكثر الأحيان الفضل في اقتراح الإطار الرئيسي للدستور، في الورقة الفيدرالية رقم 10 التي كتبها سنة 1787 لإقناع مواطني نيويورك بالتصديق على الدستور الفيدرالي الجديد، قُراءه من شرور الطوائف التي "تتعارض مع حقوق المواطنين الآخرين ومع مصالح المجتمع الدائمة والكلية"، كما حذَّر جورج واشنطن في خطبة الوداع التي وجَّهها إلى الأمة لدى رحيله عن سُدَّة الرئاسة "بكل جدية من الآثار الوبيلة للعصبية الحزبية".
ومع ذلك فإن ماديسون هو الذي حثَّ توماس جيفرسون على المشاركة في تنظيم ضد سياسات ألكسندر هاملتون، وزير خزانة واشنطن وكاتب خطبة الوداع الشهير، ومن قبيل المفارقة أن صار مؤسسو الأمة هؤلاء، الذين كانوا يخشون الطوائف وجادلوا ضد الأحزاب السياسية، زعماء أولى الأحزاب نشأة، حيث كان الحزب الديمقراطي-الجمهوري الجيفرسوني أول حزب سياسي حديث.
أولى الأحزاب السياسية الأمريكية
تحالف ماديسون وجيفرسون لتنظيم حزب سياسي لا رغبة في السلطة لأنفسهما بل لاعتقادهما أن هاملتون يقود البلد في الاتجاه الخاطئ؛ إذ كانت سياساته الاقتصادية تحابي مصالح نيو إنجلاند التجارية، وكان ماديسون وجيفرسون يريان الأمة كأمة ريفية يمثلها سكان مزارع فيرجينيا والمزارعون على الحدود الغربية، وكان كل معسكر يرى أنه يقرر المصلحة العامة.
كان ألكسندر هاملتون يؤمن بضرورة وجود حكومة مركزية قوية لبقاء الأمة الجديدة، سواء من الناحية الاقتصادية أو الجيوسياسية. وكان كوزير خزانة في السنوات الأولى من عمر الأمة ذا صوت مسموع لدى الرئيس واشنطن، وبالأخص في قضيتين حرجتين هما التمويل الكامل للدَّين المتكبَّد أثناء حرب الاستقلال، واضطلاع الحكومة الفيدرالية بالديون التي تكبدتها مختلف الولايات.
وكان جون آدمز، نائب الرئيس في عهد واشنطن وخليفته في نهاية المطاف، يتفق مع الكثير من أفكار هاملتون بغض النظر عن ازدرائه إياه شخصيًّا.
أما توماس جيفرسون، وزير الخارجية في عهد واشنطن، فكان يعارض برنامج هاملتون بشدة، لكنه ظل في مجلس الوزراء بدافع الولاء لواشنطن. لكن الانقسام بات جليًّا في الكونجرس بين أتباع أفكار هاملتون وأتباع تصوُّر جيفرسون لأمة ريفية متمحورة حول الولايات، فنشأ الانقسام الحزبي عن اختلافات فلسفية حول الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه الأمة.
صار الانقسام بين حزب واشنطن وآدمز وهاملتون، المعروفين بالفيدراليين، وحزب جيفرسون وماديسون، المعروفين بالديمقراطيين-الجمهوريين، انقسامًا دائمًا أثناء الجدل بشأن تبني "معاهدة جاي" المؤيدة للبريطانيين، حيث عارضها جيفرسون، وكان فرنسي الهوى، فاستقال من منصبه الوزاري وعاد إلى موطنه مونتيسيلو بولاية فرجينيا، لكن ليس لأجل طويل.
أعلن واشنطن أنه لن ينشد الانتخاب لفترة رئاسية ثالثة في ١٧٩٦، فسعى جون آدمز كنائب للرئيس إلى خلافته عازمًا على مواصلة برنامج هاملتون دون وجود هاملتون نفسه، فنظَّم معارضو أفكار هاملتون في الكونجرس حملة لمصلحة جيفرسون بالكتابة إلى الناخبين ملتمسين منهم الدعم. تغلب آدمز على جيفرسون بالكاد في الانتخابات، وبفارق ثلاثة أصوات بالمجمع الانتخابي، فأقر جيفرسون بفوز آدمز ووافق على الخدمة في منصب نائب الرئيس على النحو الذي حددته العملية الانتخابية في تلك المرحلة، وهي خطوة مهمة في طريق بناء الأمة لأنه بهذا أقر بشرعية النظام الانتخابي. كان هذا النظام الحزبي ممركَزًا على السياسات، وتشكَّل في مقر الحكومة الوطنية، ثم انتشر منه إلى أقاصي الأمة.٢
لم تحظَ سياسات آدمز بالشعبية، فنافسه جيفرسون مرة أخرى على منصب الرئاسة في ١٨٠٠، كان النظام الحزبي ناضجًا بدرجة كافية بحلول ذلك الوقت، حتى إن مؤيدي جيفرسون كافة من مندوبي المجمع الانتخابي أدلوا أيضًا بصوتهم الثاني لمن اختاره رفيقًا له في السباق الرئاسي وهو آرون بير، فتعادلا في عدد الأصوات للرئاسة، متفوقَيْن كلاهما على آدمز بثمانية أصوات، وبموجب الأحكام الدستورية المعمول بها آنذاك، ونظرًا لأن أيًّا من المتسابقِين لم يحرز أغلبية أصوات المندوبين، أُحيل الأمر إلى مجلس النواب الذي يسيطر عليه الفيدراليون ليفصل بين الثلاثة الأعلى حصولًا على الأصوات، وشهد البلد أزمة؛ حيث راجت الشائعات التي تتحدث عن صفقات سرية للحيلولة دون جيفرسون وسُدة الرئاسة. وفي نهاية المطاف انتُخب جيفرسون بعد خمس وثلاثين اقتراعًا غير حاسم في المجلس. ومع حصول الفائز على الجائزة التي يستحقها، ترسَّخت شرعية العملية الانتخابية.