قرأت لك .. "هيرودت" هل اعتمد أشهر مؤرخ قديم على "العرافين"؟

الثلاثاء، 21 أبريل 2020 07:00 ص
قرأت لك .. "هيرودت" هل اعتمد أشهر مؤرخ قديم على "العرافين"؟ غلاف الكتاب
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نقرأ معا كتاب "هيرودوت: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف جينيفر تي روبرتس، ترجمة خالد غريب على، مراجعة إيمان عبد الغني نجم، صدر عن مؤسسة هنداوي.
يُعزَى ظهور التاريخ لأول مرة إلى اليونان فى القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت ثمرته الأولى سرد هيرودوت التاريخي للحروب الفارسية، ولما كان هيرودوت مفكِّرًا نقديًّا وقاصًّا مثيرًا، فقد جعل ذلك العمل الساحر كنزًا ثريًّا يضم كل ما أثار اهتمامه.
 
 وفي هذه المقدمة القصيرة جدًّا، تبيِّن جينيفر تي روبرتس لماذا يستمر ذلك الكتاب إلى الآن مصدرًا لإمتاع القراء وإثرائهم، وذلك في إطار مناقشة مقارناته العابرة للثقافات على صعيد أمور مثل عادات الطعام والزواج، ورؤيته عن الآلهة، وافتتانه بالطقوس التي تكتنف الموت والدفن؛ أي الجوانب المختلفة لفضوله الذي لم يعرف حدودًا.
هيرودوت
 
يقول الكتاب، تُبرِز مساحةٌ كبيرة من "تاريخ هيرودوت" أهميةَ استيعاب تصريحات العرَّافين وتحليلها بتواضع وحذر، ولا يدهشنا أن هيرودوت يستخدم الطريقة التي يستجيب بها مَن جاءوا في كتابه للعلامات الإلهية لبيان كلٍّ من شخصية أفراد معينين والطبيعة الإنسانية بشكل أعم، ولقول شيء عمَّا يقرر مسارَ التاريخ وما لا يقرره.
 
تأمَّلْ كرويسوس، الذي عندما تقلقه قوة قوروش المتنامية يرسل مبعوثين إلى تشكيلة واسعة من العرَّافين في كل أنحاء اليونان وإلى كاهن آمون في ليبيا، مختبرًا إياهم ليكتشف أيهم يعرف ماذا يفعل في اليوم المائة من انطلاق الرجال في رحلتهم. وعندما تصيب كاهنة أبولو في دلفي كبد الحقيقة — وكان هو على وجه التحديد يسلق لحم حمل وسلحفاة في قِدر من البرونز — يقرِّر أن يضع ثقته في دلفي ويقدِّم قرابين سخية هناك. وعندما نُصِح بضرورة تبيُّن أي الدول الإغريقية ستكون أقوى حلفاء له، وأُوعِز إليه بأنه إذا خاض حربًا مع الفرس فسوف يدمِّر إمبراطورية قوية، يشرع في استقصاء للسياسة الإغريقية (وهو ما يتيح لهيرودوت فاتحة طبيعية لبعض الخلفية عن أثينا وإسبرطة).
 كل شيء على ما يرام حتى تلك المرحلة، وكرويسوس يتصرَّف مثل مستقصٍ هيرودوتيٍّ بكل معنى الكلمة، لكن في خضم لهفته على هزيمة قوروش، فاته أن يسأل أي إمبراطورية سيدمِّر.
 
يمضي كرويسوس — غير راغب في التخلي عن مسعاه بينما هو في الصدارة كما قد يبدو — ليسأل عمَّا إذا كان عهده سيدوم طويلًا، فترد الكاهنة بقولها إنه سيكون آمِنًا حتى يتربَّع بغل (والكلمة ذاتها بمعنى هجين) على عرش فارس. وهناك كثير من السخرية في استخدام هيرودوت النبوءات؛ فالجمهور يعرف أن ليديا ستسقط في يد قوروش، لكن كرويسوس لا يعرف، وهو — غير عارفٍ بمسرحية ماكبث — لا يدرك أن ما يُقدَّم له ضمانة زائفة. وكحال الملك الاسكتلندي الذي تروقه النبوءة التي تقول إنه لن يلحق به أذى شخص ولدته امرأة، يُسرُّ كرويسوس برد الكاهنة؛ إذ كيف يمكن لبغل أن يحكم إمبراطورية؟ لكن كما سيُقتَل ماكبث على يد مكدوف، "الذي أُخرِج من رحم أمه مبتسرًا"، يُهزَم كرويسوس على يد قوروش، وهو "هجين" نصف ميدي ونصف فارسي. 
ففكرة "النبوءة الخادعة" الشائعة تفسد حياة كرويسوس ومملكته؛ فعلى الرغم من تحرياته الشاملة، فإن إغفاله مرتين تحري العناية الواجبة — التحقُّق أي الإمبراطوريتين سيدمِّر، وتحري إمكانية أن تكون كلمة بغل مستعملة استعمالًا مجازيًّا — كان فيه نهايته.
 
وهناك المزيد. كانت الكاهنة قد حذرت سلف كرويسوس وقاتل مليكه جيجس من أن سلالته لن تدوم إلا إلى الجيل الخامس. وبإغفاله هذا الموضوع، رتَّب هيرودوت ببراعة لكي ينساه قرَّاؤه، تمامًا مثلما نسيه كرويسوس. لكن سقوط الملك في نهاية المطاف محتوم على نحو مزدوج؛ إذ كان كرويسوس غير دقيق في تفسيره للنبوءة، لكنه كان أيضًا ضحية قدر لا يرحم. 
وليس من قبيل المصادفة أن "تاريخ هيرودوت" وُضِع خلال أوج المأساة الإغريقية التي حام فيها القدر والإرادة الحرة حول أحدهما الآخَر مع حصول نتائج كارثية، والتي كانت على الرغم من ذلك مثقلة بالسخرية أكثر من كتاب هيرودوت.
 
يُكشَف لنا أيضًا عن شخصيات أساسية في معارك الحروب الفارسية من خلال الطريقة التي تستجيب بها لنبوءات الآلهة؛ إذ يؤكِّد هيرودوت أنه بسبب نبوءة تقول إنه لا يمكن تحقيق نصر إغريقي في ثيرموبيلاي إلا بموت ملك إسبرطي، صرف الملك ليونيداس السواد الأعظم من قواته. وهكذا تُصوَّر الحملة كتضحية طوعية لا هزيمة في معركة، وتُضفَى صفات البطولة على ليونيداس. ومن جانبه، يُصوَّر الأثيني تيميستوكليس كمستجيب لنبوءة إلهية، لا بالتضحية بالنفس بل بالحنكة والمهارة السياسية؛ إذ عندما تتنبَّأ عرَّافة دلفي بأن جدارًا خشبيًّا سيساعد الأثينيين، فإن تيميستوكليس هو الذي يتمكَّن من إدارة دفة الحديث عن النبوءة نحو اعتبار أن الجدار الخشبي لا يعني الأكروبوليس الحصين بل الأسطول، فيوجِّه تيميستوكليس وقدراتُه على الإقناع المفاوضاتِ بين الدول الإغريقية التي تتسم بالحدة أحيانًا، فيطرح — وهو المفاوِض الصعب دائمًا — نبوءات إلهية (حقيقية أو مختلَقة) تتنبَّأ بأن الأثينيين سينتقلون يومًا ما إلى إيطاليا؛ ليعضد تهديده بسحب الأسطول الأثيني إذا رفض الآخرون القتال في سلاميس. وعندما يترنح الائتلاف، توقع حنكته وجرأته الفرس في شَرَك شنِّ الهجوم في الوقت الذي تكون فيه الفرق العسكرية الإغريقية في خطر التفتت والتبعثر عائدةً إلى ديارها، فيلي ذلك انتصار إغريقي حاسم.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة