نقرأ مع كتاب "ديكارت: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف توم سوريل، ترجمة أحمد محمد الروبى، مراجعة ضياء ورَّاد، الصادر عن مؤسسة هنداوى.
كانت حياة رينيه ديكارت العملية قصيرة، ولم يكن إنتاجه غزيرًا، بيد أن إسهاماته فى الفلسفة والعلوم باقية حتى يومنا هذا.
ولعل أكثر ما اشتهر به هو مبدأ "الكوجيتو" أنا أفكر، إذن أنا موجود!، وبالمزج بين "الحدس" و"الاستنباط" توصل ديكارت من هذا المبدأ إلى وجود العالم المادي. غير أن ديكارت لم يعتزم أن تكون النظرية الميتافيزيقية التي وضعها بمعزل عن عمله العلمى الذي ضم أبحاثًا مهمة في الفيزياء، والرياضيات، وعلم النفس، وعلم البصريات. وفي هذا الكتاب، يُبيِّن توم سوريل كيف كان ديكارت — فى المقام الأول — مناصرًا لمنهج رياضيٍّ جديد في الفيزياء ومطبِّقًا له، وأن الغرض من النظرية الميتافيزيقية التي وضعها هو دعم برنامجه في العلوم.
تحت عنوان "سماع النداء" يقول الكتاب، بدا الأمر وكأنه بمحض الصدفة صار لدى ديكارت الثقة والإقدام الكافيان للمضى قدمًا في المهمة التي أخذها على عاتقه، وهي تنفيذ البرنامج البحثى الذي دشَّنه فى حياته العملية.
عندما ولد بمدينة تورين في شمال غرب فرنسا في الحادى والثلاثين من مارس عام 1596، لم يكن ينتسب إلى عائلة من العلماء، صحيح أن جدَّه لأبيه ووالدَ جدِّه كانا طبيبين، غير أن أباه كان محاميًا وقاضيًا. وتبين أن جدَّه لأمه تقلد منصبًا حكوميًّا مرموقًا في مدينة بواتييه، وأن أقرباء أمه الآخرين تقلدوا مناصب قانونية حكومية. وكان أفراد عائلتَي والدَي ديكارت إما من صغار النبلاء أو على مشارف الانتماء إلى طبقة النبلاء، وكانوا أثرياء ومتعلمين تعليمًا راقيًا، ولو أنه لم تكن لديهم ميول علمية تحديدًا. ولم يكن في سنوات حياته الأولى ما يُستدل به كمؤشر على ما آلت إليه حياته المهنية.
ربما عندما بلغ العاشرة من عمره، أُرْسِلَ ديكارت الصغير إلى الكلية اليسوعية بمدينة لافليش في منطقة أنجو. ظل ديكارت في هذه الكلية لثماني سنوات، وحصل هناك على أول تدريب له في مجال العلوم. وفي العامين الأخيرين تعلم الرياضيات التي أبدى قدرات خاصة فيها، إضافة إلى الفيزياء، لكنها لم تكن الفيزياء التي تستخدم النتائج الرياضية؛ فقد تعرَّف ديكارت على النظرية المدرسية (السكولائية) للاختلاف والتغير الطبيعيين، وهي النظرية التي تفسر ملاحظات موصوفة نوعيًّا بلغة غامضة وتجريدية وغير كَميَّة.
وتجاور بين اليسوعيين في أوائل القرن السابع عشر تدريس الفيزياء المدرسية مع الوعي بالقفزات العلمية التي تحققت في علم الفلك، واستُلهمَت من اتباع منهج رياضي مختلف كل الاختلاف لدراسة الطبيعة، وانعكس ذلك على كلية لافليش. على سبيل المثال، أقيم حفل بالكلية عام 1611 تقديرًا لاكتشاف جاليليو أقمار المشتري. ولعل اليسوعيين كانوا مستنيرين بما يكفي لإتاحة الأدوات البصرية المبتكرة حديثًا — والتي كانت تُباع في باريس منذ عام 1609 — لديكارت وزملائه بالكلية. ولكن داخل الفصل الدراسي، بدا أن المذاهب المدرسية العقيمة كانت لها اليد العليا، وأنها كانت تُشعر ديكارت بالضجر، أو هكذا كتب لاحقًا. ففي مؤلفه الأشبه بالسيرة الذاتية «مقال عن المنهج»، الذي نشر عام 1637 كمقدمة لثلاث من مقالاته العلمية، أعطى ديكارت الانطباع بأنه تحمَّلَ أيام دراسته على مضض ولم يستفد منها، فلم يساعده في أبحاثه اللاحقة سوى الرياضيات التي تعلمها في لافليش، وحتى هذا الضرب من الرياضيات دعت الضرورة إلى إعادة صياغته، على حد قول ديكارت، كي يكون ذا جدوى. ومن الواضح أنه لم ينشغل في لافليش عامي 1613 أو 1614، بل في هولندا بعدها بخمس سنوات، بالأسئلة التي حفلت بها أعماله المنشورة.