- 20 ألف مائدة معتادة سنويا فى القاهرة وحدها بنفقات تتجاوز مليار جنيه خلال أيام رمضان
- 3 ملايين صائم يفطرون يوميا على موائد الرحمن بمتوسط تكلفة بين 75 و170 مليون جنيه
- 90% من الموائد ينظمها متبرعون وأفراد وأسر مقابل 10% فقط للجهات والمؤسسات والجمعيات الخيرية
- 15 مليار جنيه ينفقها الحجاج والمعتمرون منها 6 لعمرة رمضان بإجمالى 300 ألف معتمر ومرافق
- منحة الرئيس تدعم 1.5 مليون أسرة للعمالة غير المنتظمة 3 أشهر بـ2.25 مليار جنيه
- أموال الموائد والعمرة تكفى لمضاعفة منحة العمالة 8 مرات أو إعالتهم 14 شهرا
- لماذا لا تذهب كل تلك التبرعات للجمعيات وصناديق الطوارئ وتحيا مصر وللصحة والمستشفيات والتعليم
ربما للمرة الأولى منذ عقود طويلة، إن لم تكن قرونا، تخلو شوارع القاهرة وعشرات المدن والأحياء المصرية من موائد الرحمن. الطقس السنوى الذى عرفته مصر منذ عصر الدولة الفاطمية فى القرن العاشر الميلادى، ولم يتوقف حتى وسط ظروف الارتباك والشحن عقب ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، بات معطلا بحُكم الضرورة، وتحت ضغط الإجراءات الاحترازية التى فرضتها مواجهة وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، لكن فى مقابل هذا الالتزام الذى يُجفف أنهار الخير المعتادة فى كل الأنحاء سنويا، ربما تحتاج اللحظة الراهنة وما تنطوى عليه من طابع استثنائى، نظرة مغايرة لطقوس رمضان وتعاطى المجتمع وأفراده مع قيمه وروحانياته، على الأقل فيما يخص موائد الرحمن، التى يُمكن بسهولة أن تُفلت من قبضة الوباء إذا قررنا أن نحملها إلى البيوت ونضع خيراتها فى أطباق الفقراء!
اضطرتنا المحنة التى يعيشها العالم للجوء إلى تدابير احترازية مشددة، شملت إغلاق دور العبادة بغرض ترشيد التجمعات وتقليص فرص الاختلاط الكثيف على مسافات محدودة. تلك الخطوة الضرورية لن تمنع ملايين المسلمين من التعبد والابتهال إلى الله، بالدعاء والصوم وإقامة الصلوات فى بيوتهم. بالمثل لا يجب أن يكون الظرف الطارئ حائلا بين الناس وما اعتادوا من خير وإحسان، لا سيما إن كان بالإمكان الحفاظ على موائد الرحمن عامرة كما عرفتها مصر واعتادت عليها أجواء رمضان. فهل فكر المتقربون إلى الله بتلك الفضيلة الحسنة أن يحفظوا عهدهم السنوى؟ وهل فكروا فى البيوت الخاوية كما كانوا يفكرون فى البطون الجائعة؟!
نهر جارف من الخير
على امتداد العقود الماضية ظلت موائد الرحمن موسما سنويا للجدل. كثيرون اعتبروها وسيلة للوجاهة والتباهى، وآخرون اتهموها بأنها مدخل سهل للتلميع واصطناع السمعة وحتى غسل الأموال، وفى المقابل كان الجدل يشتعل ويهدأ ولا تبقى إلا حقيقة واحدة، هى أن ملايين الصائمين من الفقراء والمحتاجين ومن تقطعت بهم السبل، يلتقون وجها لوجه مع صورة من صور الإنسانية والرحمة والتكافل الاجتماعى.
بحسب معلومات توردها محافظة القاهرة عبر البوابة الإلكترونية للحكومة، منسوبة إلى دراسات وإحصاءات أعدتها جامعة الأزهر، كانت مصر تشهد خلال شهر رمضان نحو 40 ألف مائدة تُطعم 3 ملايين صائم فى المتوسط، بمتوسط تكلفة يومية بين 75 و170 مليون جنيه وفق التقديرات وأسعار السوق، منها 20 ألفا فى العاصمة يزورها نحو مليون شخص بنفقات يومية تتجاوز مليار جنيه. قبل أسابيع أصدر محافظ القاهرة قرارا بإلغاء موائد الرحمن، ضمن توجه عام لمحاصرة التجمعات وفرص التقارب الاجتماعى، قادت مع حزمة القرارات والضوابط المعلنة من الحكومة والأجهزة الصحية إلى إنهاء تلك الظاهرة الرمضانية الراسخة عبر عقود من الممارسة والتكرار.
تُشير تقديرات إحصائية حديثة، إلى أن موائد الرحمن على امتداد مصر كانت تضخ نحو 100 مليون وجبة خلال الشهر، ولا يقل المتوسط العام للمستفيدين عن 90 مليون مفطر طوال رمضان. المتوسط الأدنى لتكلفة إطعام الفرد نحو خمسة عشر جنيها فى أقل مستويات تلك الموائد وأكثرها تواضعا، تقفز إلى أكثر من 100 جنيه فى بعض النماذج الفاخرة، وبينهما طيف واسع من الفئات حسب نوعيات الأطعمة وكمياتها ودرجات الخدمة التى تتدرج من عوام المتطوعين إلى الطابع الفندقى والطهاة المحترفين، أما تقديرات الكُلفة الإجمالية لتلك التظاهرة السنوية الضخمة فإنها تتراوح بين مليارين وخمسة مليارات جنيه، أى ما لا يقل عن ثلاثة مليارات جنيه وفق المتوسط الحسابى للقيمتين التقديريتين.
تتوزع خريطة الموائد بواقع 10% تتولاها كيانات اعتبارية ممثلة فى مؤسسات وشركات وجمعيات أهلية، مقابل نحو 90% للأفراد والأسر بتقديرات تصل إلى قرابة مليون متبرع. وبوجه عام فإن تلك المصفوفة من الأرقام المدققة أو التقديرية، بما تمثله من حجم عمل وتبرعات ومشاركين ومستفيدين، تشير إلى أننا بصدد نهر جارف فعلا من الخير والتكافل. غالبا ستنجح بيوت الفقراء فى عبور الموسم شديد النهم والتطلّب برحمة الله وبركة الشهر، حتى لو انقطع النهر، لكن المؤكد أن عبورها سيكون أيسر وأكثر بهجة وإشباعا ورضا لو تدفق هذا الفيض باتجاههم، ودق أبواب بيوتهم، وغمر الموائد والأطباق بالخير والنعم!
ثروات محبوسة بأمر الوباء
وفق المؤشرات الإحصائية عن الأعوام الماضية، يتراوح متوسط المعتمرين المصريين خلال شهر رمضان وحده بين 250 و300 ألف معتمر ومرافق. وبحسب أرقام غرفة شركات السياحة تتراوح التكلفة بين 25 و30 ألف جنيه، ليكون الإجمالى نحو 6 مليارات جنيه، يزيد فى بعض التقديرات بنسبة 30%. ويقفز هذا الرقم إلى قرابة أكثر من 12 مليار جنيه بحساب إجمالى المعتمرين المحدد من وزارة السياحة بـ500 ألف سنويا. حال استمرار إغلاق الحدود وتقييد حركة السفر وتعليق المملكة العربية السعودية للمناسك، فإن تلك النفقات التى كان مقررا أن تعبر الحدود من أجل الله والدين، ستظل فى جيوب أصحابها، رغم أن أبواب التعبد ومصارف الخير ما تزال مفتوحة!
بالمثل، يسجل متوسط الحجاج المصريين بين 70 و85 ألفا وفق متوسط السنوات الأخيرة. تتراوح التكلفة بين 70 و120 ألف جنيه لحج الجمعيات والفئات السياحية الشائعة، وتقفز إلى 200 ألف جنيه أو أكثر لبعض برامج الحج الفاخر والسريع. فى المتوسط لا تقل كُلفة موسم الحج عن 5 مليارات جنيه، وقد تزيد على ذلك بمليارين أو ثلاثة. امتداد مدى الإغلاق والتدابير الاحترازية سيحبس تلك الأموال أيضا كما هو الحال مع العمرة، أى أن ما لا يقل عن خمسة عشر مليار جنيه سيرتضى المؤمنون ألا تذهب إلى الله كما أراد الوباء!
قبل أيام قالت دار الإفتاء فى رأى شرعى، إن من كانوا ينتوون أداء مناسك العمرة وحبستهم الظروف القهرية لهم أجر النافلة، ودعت المعتمرين لتوجيه تلك الأموال التى نذروها للطاعة إلى مصارف الخير والتكافل ومساعدة المحتاجين، أو دعم جهود مواجهة الوباء المتفشى. بالتأكيد لا يُمكن المزايدة على الحجاج والمعتمرين، وغالبا لن يبادر أغلبهم بتلبية دعوة المؤسسة الدينية وفقهائها. ربما يعود الأمر إلى أن كثيرين منهم يدبرون تلك الأموال على حساب أمور أخرى يرونها ضرورية لهم، أو أنهم لن يتخلوا عن حلم زيارة المشاعر المقدسة وأداء المناسك، لذا فالأقرب أن يحتفظوا بتكلفة الحلم أو يوجهوها إلى مصارف شخصية أخرى!
الدين بين الطقوس والمقاصد
بعيدا من تلك الصورة، فالأمر مختلف بالنسبة لرعاة موائد الرحمن، لأن معتادى هذا الطقس السنوى يبدأون الاستعداد له مبكرا، ويُخرجون تلك الأموال على سبيل التبرع بالأساس، لهذا فإن حالة المعتمرين والحجاج لا تنطبق عليهم. يقتضى المنطق أن تتوجه تلك المخصصات إلى مصارفها المقررة سلفا، وهى إعالة الصائمين وإطعامهم، فإذا تعذر ذلك فى الشوارع وعلى موائد المتبرعين، فلا مانع من تحقيقه فى البيوت وعلى موائد المستفيدين!
الانتصار لطقسية موائد الرحمن على جوهرها ومعناها العميق، لا يختلف كثيرا عن الانحياز للتدين الشكلى/ الطقسى على حساب مقاصد الدين وقيمه العميقة، عبر حبس أموال العمرة والحج المنذورة لله عن سبيل الله وما رتبه للعباد من أولويات. يُحدد الإسلام مقاصده العليا فى خمسة أمور، ويرتبها بالأولوية المنطقية: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل وحفظ المال، لكن فى حالات الخطر والمفاضلة الجادة يرى بعض الفقهاء أن حفظ النفس يتقدم على حفظ الدين، وإجمالا فإنه يسبق العقل والنسل والمال.
يقول الرسول فى حديث أنس بن مالك: "ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"، ويحض القرآن فى عشرات المواضع على كفالة المحتاجين وإعانتهم بالزكاة والصدقات. وبالنظر إلى رأى الإفتاء بشأن العمرة وفضل إنفاق تكلفتها على الخير، فإن تقاعس القادرين ممن قرروا سلفا أداء المناسك هذا العام، أو اعتادوا وكانوا يخططون لإقامة موائد الرحمن، يبدو أقرب إلى الانحياز للشكل على حساب الجوهر، والانتصار للطقوس المظهرية على مقاصد الشرع وغاياته!
محنة العمالة غير المنتظمة
الوتيرة المتسارعة التى ضرب بها وباء كورونا الأسواق أسفرت عن أضرار عميقة للاقتصاد العالمى، ورغم فاعلية الإجراءات التى اتخذتها الحكومة لمواجهة تداعيات تلك الأزمة على السوق المصرية، فإن بعض الفئات كانت أكثر عرضة للتأثر سلبا بضغوط الإغلاق والتدابير الاحترازية. فى تلك القائمة تتقدم العمالة اليومية غير المنتظمة، التى تمثل حجر الزاوية الثابت فى خرائط الخير الشعبية والفردية، والجمهور الأساسى لموائد الرحمن الموسمية.
لم تُغفل الدولة تلك الفئة ضمن إجراءاتها الاقتصادية، فمن بين حزمة التنشيط التى خصصتها لمساندة الاقتصاد، كانت ملفات الرعاية الاجتماعية ومساندة الفئات الأكثر فقرا ضمن خريطة الإنفاق المقترحة. أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى مبادرة تستهدف العمالة غير المنتظمة، عبر منحة قدرها 1500 جنيه موزعة على 3 أشهر، تقدم لها نحو مليون ونصف المليون عامل. بالنظر إلى معدلات الإعالة الاقتصادية التى تدور فى نطاق 3.3 فرد لكل وظيفة من إجمالى قوة العمل، فإن عدد المستفيدين من تلك المنحة يقفز إلى قرابة 5 ملايين مواطن بواقع 750 مليون جنيه شهريا، و2.25 مليار جنيه خلال الشهور الثلاثة!
فى ضوء خريطة تلك المنحة، وكُلفتها التمويلية وإجمالى المستفيدين. فإن حجم الإنفاق على موائد الرحمن وحدها يُمكن أن يُضاعف ما يتحصلون عليه خلال تلك الفترة مرتين تقريبا، وبإضافة حصيلة عمرة رمضان وموسم الحج المقبل ترتفع التغطية إلى أكثر من ثمانية أضعاف، أو نحو 14 شهرا بالقيمة المحددة من الحكومة، أو ستة أشهر على الأقل بمتوسط بين 1500 و2000 جنيه للأسرة!
أين تذهب أموال البر؟
عمليا، قد لا يكون من السهل أن تتدفق تلك الأموال إلى المستحقين من الفقراء وجمهور موائد الرحمن بشكل مباشر، سواء نقدا أو فى صورة سلع ومساعدات غذائية. إلى ذلك فإن احتياجات تلك الفئات وغيرها تتعدى الاستهلاك اليومى من الطعام والشراب، إلى أمور الصحة والتعليم والاحتياجات الأساسية من ملبس وإيجارات وانتقال وفواتير خدمات. الإدارة المُثلى لفوائض الأنشطة التكافلية ومخصصات البر وتبرعات المعتمرين والحجاج المبادرين إلى ذلك المسلك، تقتضى الموازنة بين تغطية المتطلبات اليومية العاجلة، وتأمين الخدمات والاحتياجات الأساسية، وفق أفضل صيغة مُتاحة زمنيا ونوعيا، وبما يضمن قدرا من الاستدامة والفاعلية الإيجابية، على صعيد الإشباع العاجل، وترقية مستوى المعيشة ومؤشر جودة الحياة.
الصعوبة الأكبر أن الأفراد الذين يوفرون الجانب الأعظم من تمويلات موائد الرحمن وغيرها من الأنشطة الاجتماعية، يصعب عليهم إحصاء المحتاجين أو الوصول إليهم فى بيوتهم، أو تحديد خريطة احتياجاتهم والآلية الأفضل والأكثر كفاءة لإشباع تلك الحاجات. هنا قد يكون الحل فى المزاوجة بين القدرات الفردية والإمكانات المؤسسية، عبر الاتجاه إلى تمويل الجهات النشطة على صعيد استهداف الفئات المتضررة والأولى بالرعاية فى الظرف الراهن. يُمكن أن يوجه المتبرعون وصناع الخير تلك الفوائض أو التبرعات المعطلة لصالح برامج الدولة لمواجهة الوباء، وللجمعيات والمؤسسات الخيرية، وصندوق تحيا مصر، وصندوق إعانات الطوارئ للعمال، وأنشطة التعليم وجهود تطوير ورقمنة العملية التعليمية، وإلى وزارة الصحة وقطاع الطب الوقائى والمستشفيات والمنشآت الطبية، أو لصالح تمويل احتياجات مستشفيات ومقرات العزل، أو القرى والمناطق التى توضع تحت الحجر الصحى الاحترازى، وغير ذلك من مسارات ومصارف تصب مباشرة فى صالح عموم المصريين، وتعزز جهود الدولة لمواجهة الوباء والنجاة من تداعياته وآثاره السلبية على الحياة والاقتصاد.
بالتأكيد لا يشعر القائمون على موائد الرحمن بالسعادة جراء تعطل أنشطتهم السنوية وعدم قدرتهم على إنجاز طقوس الخير المعتادة، ولأن أغلبهم أو حصة كبيرة منهم كانوا يستهدفون الخير فعلا، وليس الوجاهة أو المفاخرة، فإن حبس هذا النهر الجارف من الخير ليس القرار الأسلم. توجيه تلك الأموال إلى مسارات ومصارف أكثر فاعلية وكفاءة فى مواجهة الأزمة سيكون أفضل من التوقف، بل ومن الموائد نفسها، وإذا انضمت نسبة من أموال العمرة والحج سيكون الخير أكبر. يمكن أن تستهدف تلك الفوائض فئات المحتاجين مباشرة، ويمكن أن تتكاتف مع المؤسسات الرسمية والأهلية فى جهودها الاجتماعية والصحية والتعليمية، وفى النهاية ستصب كل تلك الأنشطة فى صالح المتضررين والمحتاجين، وفى بيوت الغلابة وأطباقهم. المهم ألا تطفئ موائد الرحمن أنوارها أو تظل خربة ومهجورة، خاصة إذا كان متاحا أن نحملها إلى بيوت الفقراء!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة