نواصل قراءة قصة الأسد والثور من كتاب "كليلة ودمنة" وكنا فى الحلقة الماضية قد توقفنا مع الجدل الذى دار بين كل من كليلة ودمنة حول أهمة الاقتراب من الملوك وخطورة ذلك.
يقول الكتاب:
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه.
فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا؟
فقال فلان بن فلان.
قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون؟
قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسى ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التى ربما تحتاج فيها إلى الذى لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى فى الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه.
فلما سمع الأسد قول "دمنة" أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً، فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع، كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً.
فلما عرف "دمنة" أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل فى أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم، وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحى الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذى يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً، والرجل الذى يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر، فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه فى البأس واللهو.
وأحب دمنة أن يرى القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغى أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذى يأتيه من بعد.
فلما فرغ "دمنة" من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد فى كرامته.
ثم قال لجلسائه: ينبغى للسلطان ألا يلج فى تضييع حق ذوى الحقوق. والناس فى ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذى إذا أفرط فى حكه صار حاراً مؤذياً.
ثم إن "دمنة" استأنس بالأسد وخلا به، فقال يوما: أرى الملك قد أقام فى مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك؟ فبينما هما فى هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً، فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت؟
قال لم يربنى شيءٌ سوى ذلك.
قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ.
فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة.
قال الأسد: وما مثل ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن فى نفسه بكثرة الشحم واللحم، فعالجه حتى شقه، فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدرى لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذى راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما فى أنفسنا. فإن شاء الملك بعثنى وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت.
فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت، فانطلق دمنة إلى المكان الذى فيه شتربة.
فلما فصل "دمنة" من عند الأسد، فكر الأسد فى أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال فى نفسه: وأصبت فى ائتمانى دمنة، وقد كان ببابى مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف فى شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابى مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل على بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتى وإعانة عدوى ونقيصتى عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً منى فيرغب به عنى ويميل مع عليّ.
ثم قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت؟ وماذا رأيت؟
قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذى سمعته.
قال: فما قوته؟ قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر.
قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً.
قال الأسد: دونك وما بدا لك.