تسود أجواء من الترقب على الساحة البريطانية مع عودة رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون إلى عمله، بعد أسابيع من الانقطاع نتيجة إصابته بفيروس كورونا، ليجد أمامه العديد من الملفات الصعبة سواء على صعيد تزايد المطالب بتخفيف إجراءات العزل المفروضة ومواجهة التداعيات الخطيرة لكورونا على الاقتصاد البريطاني، أو على صعيد المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى للتوصل إلى اتفاق تجارى بعد خروج بريطانيا من التكتل فى 31 يناير الماضي.
وفى أول ظهور له أمس بعد عودته إلى العمل بعد تعافيه من "كورونا"، حذر جونسون من أن بلاده تمر حاليا بمرحلة "الخطر القصوى" محذرا من أن تخفيف القيود المفروضة فى بلاده للحد من انتشار الفيروس، تهدد بإمكانية ظهور موجة ثانية للمرض ووقوع المزيد من الخسائر فى الأرواح،مؤكدا تفهمه لمخاوف أصحاب المتاجر ورجال الأعمال من الآثار الاقتصادية لتفشى الوباء، ولكنه يطالب المواطنين بالصبر على إجراءات التباعد الاجتماعى لتفادى وقوع انتكاسة جديدة، لافتًا إلى أن المؤشرات تؤكد عبور بلاده مرحلة ذروة تفشى المرض.
وخلال الفترة الأخيرة تعرضت الحكومة البريطانية لضغوط متكررة لتوضيح استراتيجيتها بشأن تخفيف إجراءات العزل المفروضة فى ضوء الأضرار الاقتصادية المتزايدة التى لحقت بالعديد من القطاعات، ويأتى ذلك فى الوقت الذى يواصل فيه فيروس كورونا حصد مئات الأرواح يوميا وتجاوزت حالات الوفاة 21 ألف حالة.
ويبدو المشهد البريطانى ملبدا بالغيوم مع تنامى حالة الإحباط العام لدى المواطنين من إجراءات العزل المفروضة للتصدى لـ "كورونا"، والتى أثرت بدورها على الأوضاع الاقتصادية بالبلاد، فالاقتصاد البريطانى يعانى بشدة تحت وطأة إجراءات الإغلاق الشامل، حيث سجل النشاط التجارى انهيارا ملحوظا وانخفضت مبيعات التجزئة بأسرع وتيرة لها على الإطلاق فى مارس الماضي، فى ظل إغلاق الكثير من المتاجر التزاماً بالضوابط المفروضة، كما شهدت قطاعات التصنيع والخدمات تراجعاً شديدا تجاوز ماوقع خلال الأزمة المالية، وأصبح هناك نحو مليونى شخص مهددين بفقد وظائفهم.
فى هذا السياق، توقع مكتب مسؤولية الميزانية الحكومى انخفاض الناتج الاقتصادى فى بريطانيا خلال الربع الثانى من العام الجارى بنسبة 35%، مشيرا إلى أن البلاد مهددة بركود اقتصادى تاريخى مع احتمال انهيار ناتجها المحلى الإجمالى بنسبة 13% فى عام 2020، وأن معدل البطالة قد يتضاعف ليصل إلى 10%.
وستقترض الحكومة البريطانية 180 مليار جنيه إسترليني، أى ما يعادل نحو 222 مليار دولار، بين شهرى مايو ويونيو، وهو ما يتجاوز خططها السابقة للسنة المالية بأكملها، فى الوقت الذى يتجاوز فيه الدين العام البريطانى 2.5 تريليون دولار فى حين بلغ صافى اقتراض القطاع العام 14% من الناتج المحلى الإجمالى خلال العام الجاري، وهو ما سيشكل أكبر عجز سنوى منذ عقود.
وكانت الحكومة البریطانیة قد أعلنت الشهر الماضى عن جملة من القرارات المالیة لمواجهة الآثار الاقتصادیة الناجمة عن انتشار كورونا، من ضمنها تخصیص 330 ملیار جنيه استرلينى (407 ملیارات دولار) فى صورة قروض میسرة للشركات، كما أقر بنك إنجلترا المركزى خفضا تاریخیا لمعدل الفائدة من 25ر0 الى 1ر0% إلى جانب زيادة قیمة السندات الحكومية بإجمالى 200 ملیار جنيه إسترلینى (247 ملیار دولار).
فى ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية، تواجه بريطانيا تحدى مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، والذى يشهد مسارا متعثرا منذ البداية وازداد تعقيدا فى أعقاب تفشى "كورونا"، ومنذ وقوع بريكست نهاية يناير الماضي، لم يلتقِ البريطانيون والأوروبيون مباشرة فى مفاوضات ما بعد الخروج إلا مرة واحدة فى فبراير الماضى وانتهت دون نتائج ملموسة، ثم ألغيت الجولة الثانية التى كان مقررا عقدها فى الثامن عشر من مارس بسبب الوباء.
وفى نهاية مارس عقد الطرفان اجتماعا عبر الفيديو دون إحراز أى تقدم فى المسار التفاوضي، حتى انعقدت جولة جديدة من المفاوضات الأسبوع الماضى عبر الفيديو، يبدو أنها لم تختلف عن سابقتيها.
فمن ناحية ألقى كبير مفاوضى الاتحاد الأوروبى فى ملف بريكست، ميشال بارنييه، باللوم على البريطانيين فى عدم الخروج بنتائج ملموسة مشيرا إلى أن بريطانيا ترفض “الالتزام بشكل جدّي"، فى حين أكدت لندن التزامها بالتوصل إلى اتفاق تجارى مع الاتحاد الأوروبي.
ووفقا للمراقبين، فإن القضايا الخلافية بين الطرفين لا تزال قائمة، فالبريطانيون يرغبون فى عقد عدة اتفاقات منفصلة، فى حين يريد الاتحاد الأوروبى اتفاقا شاملا لكى يتم التقدم فى كل المواضيع فى الوقت نفسه، فضلا عن أن قضية الصيد لاتزال محل خلاف بين الطرفين وهى تحظى بأهمية كبرى لدى
بروكسل للحد الذى يجعلها لن تقبل بشراكة دون التوصل إلى حل متوازن فى هذا الشأن.
ومع قرب الموعد النهائى المحدد فى يونيو لتقييم فرص التوصل إلى اتفاق، لا تبدى لندن رغبة فى تأجيل المفاوضات مع بروكسل مؤكدة، عبر التصريحات الرسمية للمسؤولين البريطانيين، أنها تريد المضى قدما والوصول إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبى قبل نهاية العام الجاري.
وفى حال إصرار الحكومة البريطانية على عدم طلب تمديد الفترة الانتقالية فإن ذلك سيطرح على الواجهة سيناريو "خروج بلا اتفاق" وهو السيناريو الأخطر والأسوأ لما له من تداعيات مالية واقتصادية باهظة للمملكة المتحدة، ففى هذه الحالة، ستطبق قوانين منظمة التجارة العالمية مع حقوق جمركية مختلفة وحواجز جمركية بين أوروبا وبريطانيا، وهو ما سيصيب قطاع الأعمال التجارية فى المملكة المتّحدة بصدمة اقتصادية أخرى، فى وقت يعانى فيه من تداعيات فيروس كورونا.
ويتفق المراقبون على أن مد الفترة الانتقالية يبدو أنه الخيار المنطقى فى ظل الظروف الراهنة، لأنه سيضمن وضعا أفضل للطرفين الأوروبى والبريطاني، حيث أن الأولوية حاليا لدى لندن وبروكسل هى إنقاذ حياة المواطنين من الوباء فى هذه المرحلة الحرجة، وبالتالى فمن غير المنطقى التمسك بتاريخ محدد وتجاهل الأضرار والآثار السلبية التى ستترتب على الخروج بلا اتفاق.
فى ضوء ماسبق، يبدو أن بريطانيا أمام اختبار صعب ومزدوج فى ظل أجواء "بريكست" و"كورونا"، فالجميع كان يعتقد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى والتوصل إلى اتفاق تجارى معه هو المرحلة الأصعب على البلاد، ولكن جاءت كورونا لتعيد ترتيب أولويات العالم وتقلب كافة الأوضاع رأسا على عقب، وتؤكد أن أى أمر يحتمل التأخير والتأجيل مهما بلغت أهميته ولكن الأولوية ستكون دائما لسلامة الأفراد والحكومات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة