أظهرت أزمة كورونا مدى حاجتنا الاجتماعية إلى التعاون والتماسك والتكاتف لمواجهة الشدائد والأزمات، فالجميع فى سفينة واحدة هى الوطن، يواجهون خطرا واحدا لا يفرق بين كبير ولا صغير ولا بين عالم وجاهل، وفى ظل هذه الظروف فإن الخطأ أو الاستهانة أو التقصير غالبا ما يضر بصاحبه ويتعداه إلى غيره، وأظهرت الأزمة كذلك الأثر المدمر لوجود ظاهرة الغثائية والغوغائية وعدم تحمل المسؤولية وإلقاء التبعات دائما على الغير، خاصة إذا كان هذا الغير هو الدولة.. وفى السنوات الأخيرة مرت على مصر أحداث وتغيرات كثيرة ومتلاحقة استغلها بعضهم لتحقيق أغراض ومكاسب سياسية أو مالية واقتصادية واستغلت أيضا لخلق حالة صراع دائمة بين المواطن وبين الدولة، ولأن أكثر ما مر علينا من تغيرات كان سياسيا فقد كان مفهوما، ولا أقول مقبولا، كل هذه الانتهازيات التى لا تنتمى بحال إلى الأخلاق ولا إلى القيم، وهذه الأزمة أظهرت ما هو أخطر وأشد من كل ما سبق ألا وهو داء الاستهانة والاستهتار والتهاون والسخرية وروح السلبية الذى تعامل بها بعض المواطنين بغير وعى ولا فهم مع أزمة كورونا فأصبحنا بين مطرقة المغرضين الطامعين وسندان الغافلين المستهترين، وأهم أسباب النجاح فى التغلب على هذا الوباء، وعبور الأزمة- ومازالت الفرصة سانحة- إيقاظ وعى الأمة، بإحياء مفهوم المسؤولية المشتركة بين الجميع بلا استثناء، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم، فى الحديث المتفق عليه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلكُمْ راعٍ، وكُلكُمْ مسْئُولٌ عنْ رعِيتِهِ، الإِمامُ راعٍ ومسْئُولٌ عنْ رعِيتِهِ، والرجُلُ راعٍ فِى أهْلِهِ وهُو مسْئُولٌ عنْ رعِيتِهِ...الحديث».. فنحن جميعا فى سفينة واحدة والخطأ من بعض ركاب السفينة مهما كان صادرا عن حسن نية وقصد طيب قد تكون نتيجته كارثية وخيمة على جميع ركاب هذه السفينة، وهذا التصوير الدقيق للمجتمع كسفينة فيها العاقل والحكيم والسفيه والعابث، صوره لنا حديث البخارى عن النعمان بن بشِيرٍ رضِى اللهُ عنهُما، عنِ النبِى صلى اللهُ عليهِ وسلم قال: «مثلُ القائِمِ على حُدُودِ اللهِ والواقِعِ فِيها، كمثلِ قومٍ استهمُوا على سفِينةٍ، فأصاب بعضُهُم أعلاها وبعضُهُم أسفلها، فكان الذِين فِى أسفلِها إِذا استقوا مِن الماءِ مروا على من فوقهُم، فقالُوا: لو أنا خرقنا فِى نصِيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإِن يترُكُوهُم وما أرادُوا هلكُوا جمِيعًا، وإِن أخذُوا على أيدِيهِم نجوا، ونجوا جمِيعًا».. فالنجاة لن تكون إلا بالتطبيق الحازم للقانون مهما كانت العقوبات قاسية وشديدة، لكن فيها السلامة لجميع ركاب السفينة، ولو اعتبرنا أن حسن نيتهم وسلامة قصدهم سبب لتركهم يخرقون السفينة لعاثوا فى الأرض فسادا، ولهلك كل من فى سفينة الوطن، ولو أنصفنا من أنفسنا لكتبنا هذا الحديث بماء العيون، ولدعونا الجميع إلى حفظه وترديده ونشره كثقافة ووعى بين الكبير والصغير والعالم والأمى، لأن معنى الحديث يحمل قيمة مهمة نحتاج إليها فى تحقيق الأمن والأمان والسلامة للمجتمع، بتطبيق القانون بشكل حاسم على العابثين بأمن وسلامة الوطن دون اعتبار ولا نظر إلى قضية القصد أو النية، ولقد تكررت على مسامعنا وشاهدنا بأنفسنا صورا من الاستهتار يقف العقل أمامها حائرا، فمع ما تبذله الدولة من جهود جبارة لأجل محاصرة هذا الخطر الداهم، فقد صدمتنا جميعا صور من الاستهانة والاستهتارالتى تدل على غياب مفهوم المسؤولية المشتركة من أذهان بعض الناس، والحق أنه لا فرق عندى مطلقا بين مخالفة تعليمات السلامة من صاحب مقهى يدخل الناس سرا من أبواب خلفية ، وبين مجموعة ممن هرزمهم الملل فخرجوا مترفهين على الشواطيء وفى المتنزهات، وبين إمام مسجد يخرق قرار وزير الأوقاف ويجمع الناس لصلاة الجماعة أو لخطبة الجمعة بشكل سرى وكأننا فى مجتمع كافر مقصوده أن يمنع الناس من عبادة الله تعالى، لا فرق بين كل هذه التصرفات من حيث النتيجة والعواقب الوخيمة، وهى انتشار الفيروس الذى لن يفرق بين تجمع عبادة أو تجمع لهو، لقد أظهرت الأزمة أننا نواجه ما هو أخطر من الفيروس والعدوى، نواجه خللا فى قضية الوعى والفهم والإدراك لحقائق الأمور ومآلات التصرفات ومفهوم مسؤولية المواطن تجاه نفسه والآخرين، نواجه جهلا بمقاصد الشريعة ومن أهمها حفظ النفوس، ونواجه جهلا أو تجاهلا لقواعد الفقه الكلية ومن أهمها دفع الضرر، ونواجه قصورا فى إدراك أهمية علوم الواقع لتحقيق مناط الحكم الشرعى خاصة فى مثل هذه النوازل، ونواجه استهانة كبيرة بوباء يحصد أرواح البشر بالآلاف كل يوم، إن مسؤولية المواطن فى هذه الحالة لا تقل أهمية وخطورة عن مسؤولية الدولة ذاتها بجميع مؤسساتها إن لم تكن أهم، وكان للشيخ الشعرواى رحمه الله تعالى رأى صائب فى خطورة إطالة عمر الطفولة فى تربية أولادنا بحيث يظل اعتماد الابن على أسرته بشكل كامل إلى مرحلة سن الرجولة والعطاء، ونحن نواجه نفس الظاهرة فى العلاقة بين بعض المواطنين وبين الدولة، لقد عملت بعض القوى السياسة، ولأغراض معروفة، على ترسيخ روح السلبية عند المواطن، الذى تعود على إلقاء كل المسؤوليات والتبعات فى كل أزمة على الدولة والدولة وحدها وأصبح من المعتاد فى كل أزمة أن نكتفى بأن نصرخ أين الدولة، ولا شك أن غياب دور الدولة خطير ولكن غياب دور المواطن أخطر، وهنا يأتى دور التوعية أولا والتطبيق الحازم للقانون ثانيا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة