بداية : لابد من الإشارة إلى أن الأفلام المصرية أبرزت قصص الفتوات التي جسدها كبار النجوم في القرن المنصرم، من خلال مشاهد حية من داخل المجتمع المصري، وصورت السينما الحارة الشعبية بكل تفاصيلها، وعكست الصراع الدائم بين الخير والشر والعدل والظلم والأمل واليأس، ورغم انتهاء عصر الفتوات في مصر، إلا أن الأعمال الفنية تسلط بين الحين والآخر الضوء عليه لتجسد شهامة الرجل المصري، وكان آخرها مسلسل "الفتوة" للفنان ياسر جلال الذي تدور أحداثه في منتصف القرن الـ 19، و يكشف دور الفتوات في المجتمع المصري قديمًا، ولكن برؤية تختلف عن أفلام نجيب محفوظ شكلا ومضمونا.
فـ "الفتوة" عند ياسر جلال له ملامح تختلف في تكنيك الأداء إلى حد كبير عن أجواء الزمن الماضي، ولقد نجح المؤلف "هاني سرحان" - رغم ما تعرض له من نقد لاذع حول الدقة التاريخية - في رصد ملامح الفتوة في هذا العصر على نحو دقيق، حيث أظهره يتمتع بعدة صفات منها امتلاك بنيان قوي متين وشارب عريض ونبوت غليظ، فضلا عن صفات الجرأة والشهامة وينصر الضعيف ولا يقبل الظلم أو الإهانة ويدافع عن الحق ويتحلى بالصدق والأمانة وعزة النفس، وكلها صفات توفرت في فريق العمل الأساسي من الذين حملوا النبوت في "الفتوة" أمثال "ياسر جلال، أحمد صلاح حسني، ضياء عبد الخالق، رياض الخولى، أحمد خليل، وحتى فريدة سيف النصر، التي لم يترك لها المجال كي تفجر طاقتها الإبداعية في شخصية "الحاج أحمد" على نحو يكشف قدراتها التمثيلية فائقة الجودة.
والحق يقال أن كاميرا المخرج حسين المنياوي لعبت دورا كبيرا في رصد حركة ذلك الرجل الشجاع البطل الذي يلجأ له الناس كي يحميهم، وكانت هذه الصفات أهم ما يميز "الفتوة" الذي يمثل الرجولة والشهامة والشجاعة والجسم القوي وتحقيق ميزان العدل في المجتمع، كما نجح في خلق بيئة شعبية يتصرف فيها الفتوات على نحو يشابه ذلك الزمن من تصرفات تتعلق بتكوين فرق للدفاع عن أحيائهم، حيث كانوا يقومون بإغلاق البوابات في المساء وإنارة المصابيح والتفتيش عن الأغراب، ومن ثم أصبح أهل الحي يهابونه ويحسبون له ألف حساب، ورغم قوته إلا أن له مواقفه الإنسانية البطولية، مثل موقف "حسن الجبالي" في زواج ومقتل "حنوقة"، وتلثمه في الليل لاستراد حقوق الغلابة، وربما يقترب ذلك من سيرة أبرز فتوات الجمالية والحسين عند نجيب محفوظ ممثلا في "عاشور الناجي المشهور بـ "حرفوش"، والذي كان يسير بهيكله الضخم يكبح المتجبرين ويرعي الكادحين.
ربما عناصر "الجرافيكس" أضاعت كثير من المظاهر الخاصة بالمنطقة، ولهذا كان بالأحرى أن يتم تصوير المباني على الشكل الموجودة عليه الآن، دون أن تغير أعمال الجرافيك من تفاصيل المكان، خاصة وأنه ملامح الحي تظل تحمل روح هذا العصر، فمنذ نهايات عام 1800 لم يحدث تغير كبير في شكل أغلب المباني الموجودة بها حتى الآن، لكن زوايا التصوير التي اختارها "المنباوي" كانت موفقة للغاية في عدم إحساس المشاهد بفروق جوهرية، كما يكتب له النجاح في إدارة الممثلين داخل الكادرات المختلفة، خاصة أن التصوير لجأ إلى الفترات الليلية وهذا ساهم في خلق انطباع لدى المشاهد أن تلك الأجواء حقيقية.
تمتعت الحلقات بقدر كبير من الإثارة والتشويق في ظل أداء احترافي من جانب النجم "ياسر جلال"، الذي كان مثل فارس يمتطي جوادا عربيا أصيلا دخل في سباق من نوعية "القدرة والتحمل"، وفي هذا النوع من السباقات يصل الفائز إلى خط النهاية من خلال تحكمه في ثلاثة عناصر، أولها نبض الحصان، والثاني الزمن الذي يقام فيه السباق، والثالث وعورة الأرض التي يسير عليها الحصان، ومن هنا فقد اجتاز "ياسر" العناصر الثلاثة بامتياز، وفي قدرة فائقة استطاع التحكم في نفسه والتعبير بالإيحاء والدلات والإشارات عن الصبر على الظلم، وبالعيون في نظرته الحانية إلى المظلوم ليطمئنه على استرداد حقه المهدور، وحتى في قشعريرة الجسد التي صاحبتها غصة في القلب يحس بها المشاهد جراء الكادرات القليلة ذات الصبغة الرومانسية في لقاءاته مع "ليل" ابنة الفتوة "صابر شديد".
"ياسر جلال" من الممثلين الذين يصل بهم الاهتمام بالتفاصيل إلى حد الهيستريا، لكنها ليست هيستريا تدفع إلى الجنون أو الانحراف عن المسار الصحيح، بل هيستريا القلق والخوف من عدم وصول الإحساس الحقيقي للمشاهد، لذا تجده حريصا كممثل على الاهتمام بأدق تفاصيل الشخصية وينتابه قلق دائم داخل داخل البلاتوه، لكنه يظل محافظا على توازنه تماما كفارس سباقات القدرة والتحمل فيقوم بكبح جماح فورانه أولا بأول على جناح التحكم بكافة المكونات والتفاصيل، كما بدا لنا في تجسيد حي وحقيقي لشخصية "حسن الجبالي" التي قدم بها "ياسر جلال" أوراق اعتماده في نقابة "فتوات الأداء" على الشاشة الحالية، وفي زمن التكنولوجيا استطاع أن يعيد الجمهور المصرى والعربى إلى زمن "الجدعنة" وسيرة البطل الشعبى الذي يدافع عن الحق في وجه الظلم دون الاهتمام ببناء تعقيدات ومفاجآت وحيل درامية ملفقة.
وشيئا من هذا القبيل في أداء القدير "رياض الخولى" في تقمصه للشخصية على نحو احترافي أفضى لتجسيد حقيقي المطلوب بعد أن تمكن من لبس جلد شخصية فتوة المدبح المعلم "سيد اللبان" والظهور في صفاتها بقدر المستطاع، وذلك تبعا لما رسمته من معالم الشخصية، فبدا صوته قويا يحمل مقومات الخشونة والصلف والتهور، فيما يبدو على جانب آخر المهابة قادرا على اجتذاب الأنظار، بما أوتى من طبيعة خصبة تختزن كل شيء وعقلا قويا يسيطر على نفسه وأطراف جسده، وذلك نظرا لأنه يمتاز بعقل وجسم نشيطين، ففي هذا العقل الناضج والجسم النشيط تكمن القوة الديناميكية لتكوين الشخصية التي يلعبها، ملما بأغلب المشاعر والأحاسيس المضطربة التي تنتاب "سيد اللبان" من حين لآخر، فتدفعة إلى التهور وارتكاب جرائم القتل بدم بارد ناجم عن عن مهنته كجزار اعتاد الذبح ورؤية الدم دون أن يتهتز له جفن أو بدن.
وأعجبني جدا "ضياء عبد الخالق" في دور فرج "كبير المشاديد"، فهو ليس ممثلا موهوبا فحسب، بل إنه من بين قلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، ولقد أثبت "عبد الخالق" في دوره في "الفتوة" و"أبو عبد الله" في "الاختيار" إنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، وكلها عناصر تشير إلى الإلهام: فيجب على الممثل أن يعيش في الشخصية التي يمثلها، فالشخصية الشريرة تختلف عن الشخصية الطيبة، ولا بد من الكشف عن ظروف الشخصية وأحوال معيشتها حتى يتسنى له القيام على أكمل وجه.
ويحسب حسن الأداء في هذا المسلسل لـ "مي عمر"، فقد استخدمت كامل مهاراتها وقدراتها في التمثيل - بغض النظر عن مستوى الموهبة - فقام أداءها التمثيلي على عملية التحول إلى الصدق والإيمان، بحيث يتطابق مع الحقيقة العامة بهدف تحقيق فعل الإيهام، وهو ما مكنها تقمص شخصية "ليل" عبر حركات وإشارات وإيماءات وتكوينات وفعل، سواء كان خارجيا أم داخليا متفاعلة مع عناصر الدراما الأخرى، مستعينة بأداوتها الجسدية والصوتية طبقا لخصائص أدائية معينة، وقد اعتمدت في ذلك على الأحاسيس الداخلية التي جندتها في تصوير الشخصية والمواقف المختلفة من خلال استخدامها نبرة في الصوت وبإيقاع جيد جدا بتنويعات عديدة تبدأ من أكثر النبرات انخفاضا وتتدرج إلى أعلاها ارتفاعا لخدمة أهداف الشخصية في تفاعلاتها مع كافة أفراد فريق العمل.
كما أشيد أيضا بأداء محمود حافظ، الذي جسد دور "فضل" كبير العربجية بطريقة ناعمة للغاية، وهو في ذلك بدا لي ذلك الممثل التعبيري الذي يتمتع بقدرة الادراك التعبيرية في قرائته لحوارات النص متصوراً وباعثاً ذلك العالم الداخلي المتأزم بشخصية "فضل" وانفعالاته النفسية الداخلية ومزاجها وأهدافها التي تروم الوصول اليها، وهذه القدرة الإدراكية تفترض مقدرة "حافظ" التي تم بواسطتها ترجمة تلك الانفعالات والخصائص السلوكية واسترجاع ملامح تلك الحركات والوضعيات والإشارات وطريقة الإلقاء ونبرة الصوت وشكل الكلام مع الشخصيات الأخرى، ومنها أيضا فهمه كممثل وقدرته على التنقل واسترجاع التقنيات الجسدية والصوتية كافة لأزمات "فضل" مع أهالي الجمالية الذين طردوه من قبل، وهنا استطاع التقاط تلك الحركة وتلك النبرة المسيطرة وأسلوب التنقل والحركة بطريقة مبهرة تؤكد موهبته الحقيقية.
فضلا كل ما سبق يبقى لإنعام سالوسة، تقدير خاص بمذاق مختلف في أداء دور"حورية" أم حسن بأسلوب السهل الممتنع في الجمع بين السخرية والجدية في آن، بحيث رسمت لوحات كوميدية تتسم بقدر هائل من المصداقية التي أكسبت العمل رونقا خاصا يليق بأجواء منتصف القرن التاسع عشر، نتيجة الانفعالات الحادة لنفسية شخصية "حورية" تحت فوضى المفاهيم والأفكار التي تمر أمامها، وكأنها شريط ذهني لأظهار حركات العقل الإنساني لديها، وبطريقة لا شعورية أنتجت لنا فنا أدائيا ذا سمة رمزية سحرية، من خلال تلك الأصوات والحركات لوجهها التعبيري الذي بدت محافظة عليه طوال الحلقات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة