لجوء واشنطن للحشد الدولى لمواجهة الصين، يبدو أمرا طبيعيا، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار العديد من الحقائق، أهمها أن بكين تبقى القوى الوحيدة القادرة فعليا، في ظل قوتها الاقتصادية وإمكاناتها العسكرية والبشرية، بالإضافة إلى نفوذها السياسى المتنامى، على مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولى، وذلك بالرغم من وجود قوى أخرى مؤثرة، على رأسهم روسيا، والتي استعادت جزءً كبيرا من مكانتها الدولية، في السنوات الأخيرة، ولكن تبقى هناك العديد من المعوقات لاسترداد نفوذها السوفيتى، ربما أبرزها انعدام الثقة بين موسكو ودول المعسكر الغربى، رغم النبرة التصالحية التي اتسم بها الحوار بينهما مؤخرا.
ولعل الفشل الأمريكي في تقويض القوى الصينية الصاعدة، عبر سياسات أحادية، تجلت في الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على بكين منذ بداية حقبته، دليلا دامغا على قوة الدولة الآسيوية الصاعدة، التي أظهرت صمودا كبيرا في مواجهة واشنطن، على عكس الغرب وحلفاء أمريكا الأخرين في آسيا، والذين فشلوا في مواجهة إجراءات حمائية أضعف بكثير من تلك التي واجهتها الصين، في انعكاس صريح لحقيقة المعادلة الدولية الجديدة، التي تبدو فيها الدولة الآسيوية أكثر من مجرد دولة مارقة يمكن إخضاعها بإجراءات أو سياسات، وإنما منافسا قويا، في المستقبل القريب، يسعى ليجد مكانا على قمة النظام الدولى الجديد.
وهنا كانت حاجة أمريكا للحشد، عبر تخويف العالم من الصعود الصينى، وهو ما بدا واضحا في الدعاية التي تبنتها إدارة ترامب، لمجابهة بكين، بعد تفشى وباء كورونا، والذى بات يمثل تهديدا عالميا، حبث دأب كبار المسئولين في واشنطن على وصفه بـ"الفيروس الصينى"، في محاولة لتوسيع نطاق العداء تجاه الصين، بحيث لا تصبح الولايات المتحدة وحدها في مواجهة القوى الجديد، وإنما دول العالم المؤثرة، خاصة في أوروبا، أو على الأقل تقويض أي محاولة من قبل بكين لملء الفراغ الناتج عن التخلي الأمريكي عن الحلفاء.
ولكن يبقى التساؤل حول رهان بكين في مواجهة المساعى الأمريكية لهدم طموحاتها الدولية في المستقبل، خاصة وأنها نجحت بالفعل في تحقيق نجاحات كبيرة في مزاحمة النفوذ الأمريكي، في مناطق تمثل عمقا تاريخيا لواشنطن، وعلى رأسها أوروبا الغربية، خاصة بعد الدعم الكبير الذى قدمته للدول الأوروبية التي ضربها فيروس كورونا، في الوقت الذى لم تقوم فيه الولايات المتحدة بالدور المتوقع منها في هذا الإطار.
رؤية بكين في مواجهة "البطش" الأمريكي تقوم على فرض شكل جديد من الصراع على خصومها، بحيث لا يكون على غرار الصراعات السابقة، والتي فرضتها الولايات المتحدة، على العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تراوحت من الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، إبان الحرب الباردة، ثم بعد ذلك اتجهت واشنطن نفسها لتغيير شكل الصراع، في إطار ما يسمى بـ"صراع الحضارات"، والذى يقوم على تحويل الدفة إلى الصراع الدينى، بين الحضارة الغربية، ذات الإرث المسيحى، والحضارة الإسلامية، وهو ما تجلى بوضوح في أعقاب أحداث 11 سبتمبر.
النجاح الأمريكي في الانتصار في صراعاتها السابقة تجلى بوضوح في قدرتها منذ البداية على فرض شكل الصراع وإيقاعه، وبالتالي كانت الأمور تبدو مخططة بشكل جيد من قبل منظرى السياسة الأمريكية، قبل اندلاع الصراع بسنوات طويلة، فالحديث عن صراع الحضارات على سبيل المثل بدأ مع بداية التسعينات من القرن الماضى، عندما أرساه السياسى الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون، في مقالة بمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، ثم تحولت المقالة بعد ذلك إلى كتاب يحمل نفس العنوان، أي قبل اندلاعه فعليا بحوالي 10 سنوات كاملة.
الصين ربما لا ترغب في الانجرار وراء المناوشات الأمريكية حتى لا تقع فريسة للصراع الذى ترغب واشنطن في إيقاعها به، وهو ما يبدو في المحاولات المتواترة للحكومة الصينية، لعدم الوصول إلى مرحلة الصدام المباشر مع واشنطن، بل تبدى قدرا كبيرا من المرونة في القضايا الخلافية بين البلدين، في العديد من المراحل السابقة، بينما تحاول في الوقت نفسه تشكيل صورة الصراع العالمى الجديد، مع واشنطن، عبر تقديم نفسها باعتبارها المدافع الأول عن حقوق العالم النامى، وهو ما يمثل انعكاسا للصورة التي طالما سعت بكين لترويجها لسنوات طويلة، عبر إصرار مسئوليها على تصنيف نفسها كدولة نامية، رغم نجاحاتها، وقوتها الاقتصادية، ومكانتها الدولية التي وصلت إليها في السنوات الأخيرة.