لاشك أن الفن أحد ركائز بناء العقلية الجمعية للمجتمعات والحفاظ على هويتها العربية من التخريب والتدمير المتعمد، وتعد الدراما والسينما من أهم أدوات مخاطبة العقل والوجدان وتشكيل الفكر الجمعي لدى جمهور المشاهدين.
وربما انحصر دور الفن على مدار سنوات طويلة في تقديم مواد من شأنها تشويه صورة المجتمع المصري وعاداته وتقاليده، وخاصة دور المجتمع الحقيقي في تقديم المادة الوطنية التي من شأنها التفاف الشباب حولها، وذلك في إطار أن صناعة الدراما والسينما هى بمثابة قوى ناعمة تجسد واقع ما تحياه الأمة المصرية والعربية عبر التاريخ والزمن، وقد تركت أثرا واسعا مذ نشأتها لكنها مع الآسف شهدت تراجعا ملحوظا وحالة من التغريب أمام مشاريع أخرى تركية وهندية وغيرها من درامات أجنبية، وعجزت أن تقدم محتوى مؤثرا - مصريا على الأقل - رغم الأرشيف الضخم لدور الأجهزة السيادية المصرية في قضايا الأمن القومي الذي يمكن تحويله لمحتوى يخاطب وجدان الشارع المصري والعربي.
كانت الأعمال الوطنية فريضة غائبة تماما عن المشهد الدرامي المصري حتى جاء فيلم "الممر" ليعيد الثقة في تلك القوى الناعمة المصرية من جديد، ويفتح بوابات الأمل في إنتاج أعمال من شأنها توثيق بطولات الجيش في ميدان الدفاع عن الوطن، والتأكيد على الهوية والحفاظ على التراب المقدس، ومن بعده جاء في خارطة رمضان هذا العام بمسلسل "الاختيار" تأليف باهر دويدار، وإخراج بيتر ميمي، وبطولة أمير كرارة ، أحمد العوضي، أحمد فؤاد سليم، محمود حافظ، ضياء عبد الخالق، إسلام جمال، دينا فؤاء، سارة عادل، مها نصار، وغيرهم من ضيوف الشرف الذين مثلوا إضافة حقيقية أضاءت هذا العمل الوطني بامتياز، وهو ما ساهم في تحقيق الهدف الأسمى للمسلسل في التأكيد على الهوية المصرية، من خلال نماذج التضحية والفداء من ناحية، ومن ناحية أخرى توضيح الرسالة السلبية التى تصدرها الجماعات التكفيرية تجاه مصر والمصريين.
عوامل كثيرة أدت لنجاح هذا المسلسل من الناحية الدرامية على مستوى الأداء البطولى لكل فريق العمل وعلى رأسهم "أمير كرارة" الذي جسد شخصية الشهيد البطل "أحمد منسي" على أكمل وجه، وكذلك أحمد العوضي في تجسيد حقيقي لدور الإرهابي "هشام عشماوي، ولعل من أسباب هذا النجاح أيضا القصة التي كتبها بعمق وحس وطني رفيع المؤلف باهر دويدار، والإخراج الاحترافي من جانب المخرج "بيتر ميمي"، فضلا عن باقي العناصر الفنية من خدع ومفرقعات "هاني المغربي" وموسيقى تصويرية بالغة القيمة والأثر للموسيقار المبدع "تامر كروان"، ناهيك عن أن "الاختيار" انتصر لنا كمصريين فى فضح تجار الدين، وانتصر أيضا للمثل الأعلى والقدوة التى يجب أن تكون على مائدة رمضان الدرامية كل عام، وما أحوجنا الى تلك الدراما التى أعادت الأسرة إلى الاتفاف حول الشاشة الصغيرة من جديد وبشغف في ظل أزمة كورورنا التي اجتاحت البلاد.
نعم احتشد المصريون خلف "الاختيار" وهذا أجمل ما أحدثه، بل كان بمثابة دعم وتأييد للجيش ضد أعداء الوطن وتجار الدين، لذلك عندما عرض المسلسل لم نندهش من التفاف الأسرة المصرية حوله، فهذا أمر طبيعى لعمل يحكى حكاية بطل مصرى، وقد حاولت بعض المحطات والمواقع الإخبارية مثل BBC وغيرها الدخول بالعمل الوطني فى دائرة المعارك الهزيلة التى تصورها من وقت لآخر للناس، وأن هناك جدل حول المسلسل بين مؤيد ومعارض له، واستعانت بآراء لبعض أعضاء جماعة الشيطان، لكن الحقيقة كانت على العكس تماما من تلك المحاولات فقد لقى العمل إجماعا من الشارع المصرى، اللهم إلا بعض المرتزقة والمأجورين، الذى يغردون خارج السرب هنا وهناك.
تركيبة "الاختيار" نفسها تظهر نوعا من الزخم الكبير، لأنه ببساطة يحكي قصة حياة أبطال مازلنا نعيش قصتهم حتى الآن وصورهم مازالت في أذهاننا، أي أن الدم لا يزال حيا بالنسبة لنا كمصريين حتى الآن، كما أن موضوع وقصة العمل لا تخص فردا وإنما تخصنا جميعا كشعب، وعلى حد قول اللواء سمير فرج : فإن "الاختيار" يعد أعظم ما قدمته الدراما المصرية منذ عقود طويلة، إذ وضح بعض الحقائق عما يجري في سيناء، وقربها إلى ذهن المواطن البسيط، الذي لم يتصور من قبل حجم التضحيات التي يبذلها هؤلاء الأبطال العظام، من رجال الجيش والشرطة في مكافحة الإرهاب، وتحملهم وحدهم لمسئولية صد تهديداته عن باقي أفراد الشعب.
نعم وصلت رسالة العمل الدرامي، لمختلف فئات الشعب، حتى الأطفال منهم، فقد شاهد الجمهور عن كثب أولى حلقات المسلسل التي صورت حادث رفح الأول، وغدر الإرهاب برجال الصاعقة وهم صائمون، وتساءل الصغار في فزع وذعر: "معقول بيعملوا كده؟!، دول مش ممكن يكونوا مسلمين"، وقد أجابت الحلقات الثلاثين على أن الإرهاب لا يعرف دينا ولا يعنيه إلا التمويل، لذا علينا أن نرسخ في عقول كل الشباب والصغار قيمة هذا الوطن، ونقول لهم "استعدوا لتنضموا للجيش كمان كام سنة، لتدافعوا عن بلدكم، وأرضكم، وناسكم زي الرجالة دي"، ولقد لاحظت أن عيني الأطفال لمعت وهم يهتفون، مع تطور الأحداث وتعاقب الحلقات: "طبعاً هدافع ونص".
منذ الحلقة الأولى لمسلسل "الاختيار" أدركت أن هذا العمل الدرامي المتميز قد حقق الرسالة والهدف منه، ولمست تأثيره في الشعب المصري بمختلف فئاته، فقد رفع وعيهم، ونقل الحقيقة لهم، وشعرت ونحن نلتف حول حلقاته أن في ذلك إجابة لسؤال الجندي الذي سأل أحمد منسي في إحدى الحلقات، "هو فيه حد حاسس باللي فينا يا فندم؟"، ونحن نرد عليه مع "منسي" في ثقة : نعم مصر تشعر بكم وترى تضحياتكم، وتقدر شجاعتكم واستبسالكم، فلولاكم ما عشنا في أمان، لنتابع تلك الأحداث المصورة، فأنتم حماة الأرض والعرض، وبفداء أرواحكم نحيا آمنين، والدليل على ذلك أنه عندما تمت مهاجمة دورية بئر العبد أظهر عموم الشعب المصري والعربي رفضه لها، وأكدوا موقفهم الشعبي من خستها، من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، لوعيهم بطبيعة ما يقدمه هؤلاء الأبطال من جهد وتضحية لحماية أرض مصر وشعبها.
يروي لنا مسلسل "الاختيار" قصة فخر وعزة لشخصية مصرية حقيقية تصدت لعدو من أعداء السلام، وهو ما يذكرنا بمسلسلات حفرت في أذهاننا على مدار السنوات الماضية مثل "رأفت الهجان" و"دموع في عيون وقحة"، وغيرها من تلك الأعمال التي سردت أيضا قصص حياة أبطال مصريين، ومعروف أن هذا النوع من الدراما يرتبط بالمشاهد بشكل وطيد نتيجة علاقته ببلده وارتباطه بها، ولعلنا خلال السنوات الأخيرة لم نرى مسلسل مصري يروي قصة بطل من الأبطال، فكان هناك حاجة لمثل هذه النوعية من الأعمال، وبعيداً عن الجانب الدرامي للعمل وأن من أسباب نجاحه هو بطله أمير كرارة الذي يتمتع بشعبية كبيرة، فضلا عن مهارته في الأدوار الوطنية التي تميز فيها على مدار أعماله في"كلبش" وتجسيده للشخصية بإتقان، لدرجة تعطي المشاهد إحساس بأنه ظابط حقيقي في الميدان، وأنك أمام شخصية وطنية حقيقية، ومع ذلك فالعمل أسري يستطيع أن يراه كل أفراد المجتمع، بل ويحث الآباء أن تنصح أبناءها بمشاهدته لزيادة روح الانتماء والحب لبلدهم من خلال تلك البطولات الأسطورية التي وقعت على أرض سيناء.
ومن ضمن عوامل نجاح مسلسل "الاختيار" أيضا على مستوى الهدف والرسالة هو ذكاء صناع فريق العمل في الربط بين أحداث المسلسل والأحداث الحقيقية، لتذكرة المشاهد بالأحداث التي وقعت قبل سنوات قليلة، مما يجعل المشاهد كما لو كان في قلب تلك الأحداث، مثلما تم عرض لقطات حقيقية من مشهد حادث رفح الغادر الإرهابي الأول الذي وقع أثناء إفطار الجنود في شهر رمضان، والذي ذكر جمهور المسلسل بمواقف الغدر والخيانة التي قامت بها الجماعات الإرهابية، وظني أن مثل هذه النوعية من الأعمال الدرامية، تعد سلاح لفضح ومواجهة أكاذيب الجماعات الإرهابية، ومن أبرز الرسائل المهمة كانت تلك الكلمات الأخيرة للشهيد المنسي، عندما قال: "على العهد يارجالة وزي ما اتفقنا.. اندفن بافرولي... الشهيد لا بيتغسل ولا بيتكفن"، وهى جملة ظلت متداولة على منصات السوشيال ميديا، وثبتت في أذهان المشاهدين لفترات طويلة، مما يشير إلى تأثر الجمهور بالأحداث وتفاعلهم معها، والتعاطف مع بطل العمل في كل ما يقوم به من مهام قتالية توجت باستشهاده في النهاية.
لدي قناعة شديدة بأن اختيار الفنان أحمد العوضي، والذي برع في إتقان تفاصيل شخصية هشام عشماوي، كان موفقا من جانب صناع العمل، فتعبيرات الوجه، وملامح الشخصية، جعلت المشاهد يعتقد أنه بالفعل أمام الإرهابي هشام عشماوي، وليس الفنان أحمد العوضي، وأيضا اختيار "ضياء عبد الخالق" لشخصية زعيم الإرهابيين "توفيق فريج" الذي كان يطلق عليه "أبوعبد الله"، فقد كان له تأثير كبير في تجسيده الاحترافي على مستوى لغة الخطاب وتعبيرات الوجه وتون الصوت، كما أجاد "أحمد الرفاعي" في دور "عمر رفاعي سرور" إلى حد كبير من خلال لغة جسد معبرة للغاية، وكأنك أمام إرهابي داهية يعرف كيف يتلاعب بالفكر قولا وعملا باعتباره مفتي الجماعة الذي يحلل ويحرم بأعصاب باردة ممزوجة بداعبات كوميدية صفراء تكشف الغل والحقد الدفين الذي يسكن هذا الجسد الضخم، والحقيقة أنني لابد أن أقف احتراما وتقديرا للفنان القدير "أحمد فؤاد سليم" في تجسيدة الرائع للدكتور "صابر المنسي"، والذي أظهر فيه أحاسيس حنو الأب المخلص لأسرته، وكيف يعشق تراب هذا الوطن حتى آخر نفس في عمره.
كما أني أعجز تماما عن الوفاء بحقوق كل من شارك في صناعة هذه الملحمة الوطنية ومنهم: " سارة عادل زوجة منسي، ياسر عزت: سلمى المحاسنة، عابد عناني: عماد عبد الحميد، محمود حافظ: سعد، مها نصار: أخت عشماوي، دينا فؤاد: زوجة عشماوي، إسلام حافظ: معتصم، إنعام سالوسة: والدة سعد وعبد الله، أشرف مصيلحي: زوج شقيقة هشام عشماوي، عبد الرحمن القليوبي: عبد الله، أحمد ثابت: وليد بدر، وأبطال كمين البرث: رامز أمير: الملازم سباعي، محمد عز: خالد علي موسى، عصام السقا: هرم، تامر مجدي: علي علي، عمر عبد الحليم: النقيب محمد صلاح، كريم عبد الجواد: النقيب شبراوى، شريف البردويلي: أحمد علي نجم، حسين كرارة: الملازم حسني، أحمد حمدي: النقيب خالد مغربي، كريم عبد الخالق: فراج، محمد السويسي: رجب داخلية، أحمد الشاذلي: الشاويش ماسا، هادي خفاجة: إبراهيم أبو عميرة.
أما ضيوف الشرف وهم: محمد رجب، محمد إمام، إياد نصار، كريم محمود عبد العزيز، عمرو سعد، آسر ياسين، ماجد المصري، دياب، إيهاب فهمي، أحمد وفيق، حازم سمير، صلاح عبد الله، أحمد صلاح حسني، فكانوا جميعا على قدر من المسئولية والحماسة الوطنية التي أضاءت العمل، وعبرت عن كفاءة الممثل المصري حتى لو جسدا مشهد واحد تجده يلعب الشخصية بعمق وكأنه أحد أبطال العمل، وفوق هذا وذاك كله يبقى توافر العناصر الإنتاجية التي جعلت العمل يتسم بالجودة في الشكل والمحتوى، مما جعل المسلسل يخرج للمشاهد كملحمة وطنية وليس مجرد تجسيد شخصيات أو أحداث بعينها لتعيد أمجاد البطولات العسكرية للجيش المصري الذي يشكل درع هذا الوطن وسيفه الباتر المسلط على رقاب أعدائه.. فتحية تقدير واحترام للشركة المنتجة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة