مسافة كبيرة تفصل بين العقل والنقل، والاتباع والاجتهاد، والتقليد والتجديد، والسماحة وقبول الآخر وحق الاختلاف وبين التعصب والتحيز للرأي.
وعندما أتأمل في تعليقات القراء على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن قضايا المواطنة وحقوق المرأة، ومدى التمترس الشديد و التراشق اللفظي من البعض، دفاعا عن رأيه الذي كونه
من خلال القراءة الحرفية للنصوص، خارج سياقها التاريخي والاجتماعي فى سبيل التصعب الأعمى للنقل على حساب إعمال العقل. أرى ضرورة إصلاح الخطاب الديني، وإعادة نشر كتب رواد الإصلاح من أمثال الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي و على مبارك والإمام محمد عبده والشيوخ مصطفى المراغي ومحمد عبد الله دراز ومصطفى وعلي عبد الرازق ومحمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدي وعلي الخفيف وغيرهم من الإصلاحيين الذين قدموا رؤية علمية ومنهجية نقدية ، ليس هذا فحسب بل تكوين وتأهيل جيل جديد من المصلحين من الباحثين فى العلوم الدينية. وذلك لترسيخ قيم العقلانية فى الوعي العام من جهة، وقطع الطريق على التيارات الإسلامية الماضوية التى لم تقدم إلا شعارات هلامية ومصطلحات غامضة، للسيطرة على وجدان الجماهير وتجميد عقولهم وافهامهم من جهة أخرى.
ويشير الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه " الحقيقة والوهم فى الحركات الإسلامية المعاصرة إلى:" أن الخطأ الأساس الذى وقعت فيه معظم تلك الحركات الإسلامية أنهم جعلوا من النصوص وحدها أساسا للحكم على موقفهم الذين يزعمون أنه موقف الإسلام من مشكلات الإنسان الرئيسية. ويتجاهلون ما حدث بالفعل من كوارث فى التاريخ الإسلامي" .
لقد رفعت تلك التيارات الإسلامية شعارات براقة هلامية فضفاضة مثل:" الحكم الإلهي مقابل الحكم البشري، صلاحية النصوص التراثية لكل زمان ومكان".
وفى أثناء الممارسة العملية على أرض الواقع سقطت تلك الشعارات والأطروحات أمام قضيتين رئيستين هما: المواطنة و حقوق المرأة.
أما المواطنة بمعناها الذى تضمنته أدبيات الفكر الغربي من ليبرالية إلى قومية ويسارية وغيرها، فقد تطورت من علاقة الفرد بالمجتمع إلى علاقة الفرد بالدولة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، ومنها المساواة القانونية والحريات العامة والحقوق السياسية والاجتماعية. فهى لاتزال محل خلاف بين الإسلاميين الذين انقسموا بين فريقين: أحدهما يرى أبدية عقد الذمة على غير المسلمين بمعنى أن حقوقهم كمواطنين مكفولة ومضمونة، لكن تنحصر واجبات أهل الذمة فى أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية والتزام أحكام القانون الإسلامى فى المعاملات التجارية ونحوها واحترام شعاءر المسلمين. بل ذهب فريق
والبعض الآخر من الإسلاميين رغم حديثهم عن انتهاء الظروف التاريخية التى تأسس عليها عقد الذمة، وبالتالي إمكانية احلاله بالمواطنة، إلا أنهم يرفضون حق تولى غير المسلم بعض الوظائف الكبرى فى الدولة الإسلامية واعلاها الولاية العظمى، من منطلق أنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم.
و قد استند هؤلاء فى أحكامهم الفقهية التي تجاوزها العصر بكل تعقيداته إلى كتب التراث الديني.
وهذه المشكلة ترجع إلى النظرة المثالية للتراث الديني، وعدم إعادة قراءته من منظور تاريخي واجتماعي ووضعه فى سياقاته ومساراته التي وضع لأجلها، دون مسايرة التطور والتحديث فى بنية المجتمعات وتغير أدوار ومهام المواطن من شرط الملة فى عضوية الجماعة السياسية إلى المواطنة ليس على أساس الولادة و الجنسية فحسب بل المشاركة والفعالية فى المجتمع المدنى بل ظهرت أنماط جديدة من المواطنة القومية، تسمى بالمواطنة النشطة بتعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.
القضية الأخرى التي سقطت فيها التيارات الإسلاموية المحافظة، رؤيتها للمرأة فى مرتبة أدنى من الرجل أو تالية له، و المطالبة بعودة المرأة للمنزل، والتعامل معها بصفتها مصدرا للفتنة والشرور يجب فرض مزيد من القيود على ملابسها وتحركاتها وسلوكياتها. وهو ما يفسر تعطيل صدور وثيقة تمكين المرأة ضمن وثائق الأزهر فى عام 2012 بفضل تأثير التيارات الإسلامية المحافظة فى ذلك الوقت. رغم أن المرأة الآن لها مكانتها ووضعيتها فى المجتمع ندا مع الرجل.
إن الإصلاح يبدأ بتشخيص العلل أولا ومعرفة موطن الداء وهو إعادة تأويل التراث الديني وإعادة النظر فى الفقه التقليدي وعدم التوقف أمامه بصورة استيلابية استسلامية بل التأصيل لفقه جديد يتناول قضية المواطنة الكاملة غير المنقوصة للجميع على أساس المساواة والعدالة والانصاف، وتحديد وضعية المرأة بشكل يبرز مكانتها فى المجتمع وأهميتها جنبا إلى جنب مع الرجل فى عملية البناء والتنمية بدون إقصاء أو تهميش أو تمييز.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة