يعد القرن العشرون من أهم عصور الاكتشافات الأثرية المصرية القديمة، التى أحدثت ضجة كبيرة فى مختلف دول العالم، لما تحمله من قيمة أثرية وتراثية متميزة لتاريخ وحضارة عريقة مثل الحضارة المصرية القديمة، حيث قام بهذه الاكتشافات المثيرة علماء آثار أفذاذ حققوا نتائج وإنجازات مذهلة لم يسبق لها مثيل حين نقبوا ونشروا حضارة مصر القديمة على العالم أجمع، وفى ظل الأزمة التي تمر بها مصر وجميع دول العالم من تفشى فيروس كورونا، وتحت شعار "خليك فى البيت" نستعرض يوميا كشف من تلك الاكتشافات، واليوم نحكى عن "كنوز تانيس الذهبية".
ثمة شعور بالرهبة وإحساس بالجلال والعظمة ينتابك وأنت تقترب من تانيس، فتحس عندما تلوح معالم تانيس من بعيد أنك تدخل إلى محراب التاريخ وأنك سوف تشاهد آثار مدينة كتب لها الخلود وأنك سوف تعيش بين رحاب وجنبات التاريخ، وتنفصل تماما عن أحداث ووقائع الحياة اليومية المعيشة فى مصر المعاصرة.
كنوز تانيس
ويقول الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف آثار مكتبة الإسكندرية، تعد تانيس- أو صان الحجر- الموقع الأثرى الأكثر أهمية فى شمال شرق الدلتا، وعاصمة الإقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى فى العصر المتأخر (747-332 ق.م.)، وتقع فى مركز الحسينية فى محافظة الشرقية، وتبعد عن مدينة القاهرة حوالى مائتى وخمسين كيلو مترًا.
أوضح الدكتور حسين عبد البصير، ذكرت فى النصوص المصرية القديمة باسم "جعنت" وتعنى "المدينة التى بنيت فى الأرض الخلاء"، كما ورد ذكرها فى التوراة باسم "صوعن"، أما اسم "تانيس" فقد أطلقه عليها الإغريق نسبة إلى الفرع التانيسى، أحد أفرع نهر النيل السبعة القديمة، بينما أطلق عليها العرب اسم "صان" تحريفا عن الأصل المصرى القديم، ونظرًا لكثرة الأحجار بها أضافوا إليها الحجر، فأصبح يطلق عليها اسم "صان الحجر" إلى الآن.
كنوز تانيس
وأضاف الدكتور حسين عبد البصير، تعتبر تانيس من أهم المواقع الأثرية فى الأرض المصرية، وكانت عاصمة للإقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى، وإحدى مدن مصر القديمة الرئيسية، وإحدى عواصم مصر المهمة فى دلتا النيل المصرية، وبرزت أهمية تانيس مع نهاية عصر الدولة الحديثة وبداية عصر الانتقال الثالث، نظرًا لاتخاذها عاصمة لمصر فى عصر الأسرتين الحادية والثانية والعشرين المضمحلتين سياسيًا والغنيتين أثاريًا وتاريخيًا.
كنوز تانيس
أجرى الحفائر بها أثريون عظام أمثال أوجست مارييت بين الأعوام 1860-1880م، ووليام فلندرز بترى بين الأعوام 1883-1886م، وبيير مونتييه بين الأعوام 1921-1951م، وكان عام 1939م، لحظة عظيمة الأهمية فى تاريخ مصر القديمة، حتى اكتشف الأثرى الفرنسى"بيير مونتييه" مقابر جبانة عصر الانتقال الثالث الملكية الغنية، من الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين (1040-783ق.م.) فى تانيس. وتدفق عدد كبير من الآثار الساحرة من تلك المدينة التى كللها المجد والعظمة فى مصر القديمة، من خلال حفائره التى قام بها بين الأعوام 1939-1946م. وكان هناك سبب كبير أثر بالسلب على نتائج حفائره، ألا وهو نشوب الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) فى توقيت الاكتشاف، مما جعل الحدث السياسى بتبعاته الحربية يصم الآذان عن اكتشافات تانيس المذهلة، وجعل اكتشافاته المهمة لا تحظى بمكانتها الإعلامية التى كانت تستحقها آنذاك.
وأشار الدكتور حسين عبد البصير، لم يدخل المكتشفون الفرنسيون المقبرة الأولى من مدخلها الأصلى، وإنما من السقف، وبنيت حجرة الدفن من كتل من الحجر الجيرى والجرانيت الوردى، وزينت الجدران بنقوش من "كتاب الموتى" و"كتاب الليل"، وهما من الكتب الدينية المهمة فى مصر القديمة، واحتوت المقبرة الدفنة الغنية التى تخص الملك أوسركون الثانى بكل كنوزها الفاتنة من الحلى الذهبية والتمائم والأواني الذهبية والفضية.
ودخل المكتشف المقبرة الثانية من السقف أيضا، فى يوم 17 مارس 1939م، الذى أطلق عليه اسم:"يوم العجائب المثيرة لألف ليلة وليلة"، ومن خلال دخوله حجرة صغيرة ملونة، ثبت أنها تخص الملك بسوسنس الأول (1034 -981 ق.م.) - المقبرة رقم "3" فى تانيس- وجد نفسه محاطا بأكوام رأسية من الأثاث الجنائزى.
وتابع الدكتور حسين عبد البصير، احتوت المقبرة أيضًا على دفنة الملك شاشانق الثانى (895-؟ ق.م.) محاطاً بجسدى الملكين سى آمون (968-948 ق.م.) وبسوسنس الثانى (945-940 ق.م.). ووصل إلى حجرة دفن الملك بسوسنس الأول التى لم تمس، فوجد بها الأوانى الكانوبية وأشكال الأوشابتى والأوانى الذهبية والفضية والتابوت الذي أخذ من دفنة الملك مرنبتاح (1212-1201 ق.م.) - ابن الملك رمسيس الثانى- من مقبرته في وادي الملوك. وكانت الحجرة الأخرى التى على الجانب الآخر مخصصة فى الأصل لدفن أم الملك بسوسنس الأول، الملكة موت نجمت، واحتوت الدفنة الغنية للملك آمون إم أوبت (984-974ق.م.). وما تزال المفاجآت تذهل مونتييه وبعثته من الأثريين، فوجد حجرة أخرى احتوت تابوتا فارغا للقائد عنخ إف إن موت. ثم أكمل العمل فى 13 فبراير 1946م، الأثرى الفرنسى ألكسندر ليزين فى الدفنة التى لم تمس لقائد عسكرى آخر، هو ونج باو إن جدت وكانت قليلة الحلى والأثاث الجنائزى.
ومنذ ذلك الحين لفتت تانيس أنظار العالم بآثارها الرائعة والجميلة والكثيرة المستخرجة من مقابرها حتى أن هناك قاعة كاملة خصصت لروائع تانيس بالمتحف المصرى بالقاهرة لا تقل روعة وجمالاً بأى حال من الأحوال عن آثار مقبرة الفرعون الذهبى توت عنخ آمون المحفوظة بنفس المتحف، فمن بين تلك الآثار، يجد المرء توابيت ومصنوعات ذهبية وحلى ومشغولات من اللازورد والأحجار الكريمة مثل الأقنعة الجنائزية الخاصة بعدد من ملوك تلك الفترة مثل القناع الذهبى الأشهر للملك بسوسنس الأول، فزيارة واحدة للمتحف المصرى بالقاهرة أو لمدينة صان الحجر نفسها كفيلة بأن تجعل المرء يرجع بالزمن إلى الوراء آلاف السنين ليعيش بين مجد وكنوز مدينة تانيس الذهبية.
وأكد الدكتور حسين عبد البصير، مازالت الحفائر الأثرية فى تانيس مستمرة وتثير الدهشة، فقد كشف الأثرى الفرنسى فيليب بريسو منذ فترة موقع البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإلهة موت (زوجة الإله آمون وأم الإله خونسو اللذين يشكلان مع الإله آمون ثالوث مدينة تانيس المماثل لثالوث مدينة طيبة "الأقصر الحالية"، مما جعل من تانيس بمثابة طيبة الشمالية) فى حالة جيدة على مبعدة حوالي 12 م من سطح الأرض، وبلغت مساحة البحيرة 12 م عرضًا و15 م طولاً وحددت بأحجار ملونة من الحجر الجيرى، هذه هى البحيرة الثانية التى تكتشف بتانيس بعد البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإله آمون (المعبود الرئيسى للمدينة) فى عام 1928 واكتشفت فيما بعد مقابر الملوك بالقرب منه، فهل تخرج لنا حفائر المواسم المقبلة مقابر الملكات بالقرب من المعبودة موت وفى رحاب معبدها، كما حدث مع الملوك والمعبود آمون ومعبده من قبل؟ نأمل ذلك حتى تعود تانيس وآثارها الرائعة إلى أذهان العالم أجمع مرة أخرى.