تعجبت عندما ترك الجنرال البورمي ني يونت تن Nyunt Tin وزير الزراعة الأسبق فى ميانمار زوجته تدخل المعبد البوذي بينما ظل واقفا على الباب حتى انتهينا من الزيارة، وعندما سألته عن سبب ذلك قال لى الجنرال: كلانا ينتمي إلى طائفة خلاف الآخر ولا يجوز لنا دخول معابدهم رغم أننا من نفس الديانة البوذية.
تعرفت إلى الجنرال وزوجته أثناء زيارتي لاندونيسيا عام 2012، ضمن برنامج أصدقاء الرئاسة الاندونيسية فى عهد الجنرال سوسيلو باماوبنجبامبانج يوديونو . كنا عشرة من مختلف دول العالم من اليابان وكندا وفيجي ومنغوليا ودول أخرى، للتعرف على تجربة إندونيسيا في التسامح وكانت الزيارة مدتها أسبوعان بين العاصمة جاكرتا وجاوا الوسطى ومدنا أخرى. زرنا خلالها مدينة قدس التي تجمع معظم الديانات الإبراهيمية وغيرها فى مكان واحد كدليل على العيش المشترك التقينا الرئيس الأسبق البروفيسور يوسف حبيبي الذي قد التحول بعد نظام الجنرال سوهارتو وكذلك الرئيس وقتها سوسيلو، وقد لاحظت حفاوة غريبة بالجنرال ني يونت تن رغم اندلاع أعمال العنف فى بلاده ضد اقلية الروهينجا المسلمة. وقال لي الجنرال مفسرا ذلك: "تربطني علاقات شخصية مع الرئيس سوسيلو بامبانج يوديونو وبعض الشخصيات السياسية هنا، وأنا على تواصل مستمر معهم حتى فى وقت الأزمات" .
استوقفني ثبات الرجل رغم تصاعد الغضب الدولي و في العالم الإسلامي ضد اضطهاد الروهينجا، ربما لخلفيته السابقة وانضباطه كمقاتل سابق، لكن الأهم بالنسبة لى كباحث في الأديان، أن المعروف تاريخيا عن البوذية أنها ديانة سلمية بعيدة عن الحروب وسفك الدماء فلماذا يمارس بعض الرهبان المتطرفين العنف ضد الروهينحا المسلمين؟
شرح لي الجنرال خلفيات الأزمة مؤكدا إنها سياسية وليست دينية، بدليل وجود آلاف من الروهينجا في الهند لم يتعرض لهم أحد. إنما القضية أننا قبلناهم فى بلادنا منذ ما قبل الاستقلال وهم غير مواطنين ولكنهم أصبحوا يشكلون عبءا على دولة اقتصادها يمر بمراحل صعبة. بالإضافة إلى أنهم شكلوا جيشا صغيرا فى مقاطعة راخين وبدأوا بمحاولات الانفصال عنا. وقد حاولنا طويلا حل الأزمة بالتعاون مع جارتنا بنجلاديش لكنها لم تساعدنا، فوصل الموقف إلى ما نحن عليه من استمرار العنف المتبادل ورد الجيش عليه، وتنامي مشاعر الغضب ضدهم من الشارع البورمي". أعدت السؤال الرئيس على الجنرال بطريقة أخرى: لماذا تخالفون تعاليم بوذا فى المحبة والتسامح مع الآخر؟ كانت إجابات الجنرال كلها دفاعية وتحمل خلفيات سياسية، لكن الأهم أننا اتفقنا بوجود متطرفين فى داخل كل ديانة أو مذهب. وأن من الضروري مواجهتهم حرصا على الأمن والسلام الاجتماعي للبلدان.
إذا الأزمة ليست فى البوذية كدين مسالم يبلغ أتباعه نصف مليار حول العالم، وتنتشر في جنوب شرق آسيا، لكن أزمة أي دين فى الأصوليين الراديكاليين في كل دين شيوخا كانوا أو رهبانا، من الذين يرفضون ليس قبول الآخر بل الاعتراف بوجوده من الأساس ويريدون السيطرة على المجال الديني العام.
لقد ورد في نصوص تعاليم بوذا ، باب غير الرهبان : "لا تقتل ، لا تأخذ ما لا يخصك ، لا تقرب زوجة غيرك ، لا تكذب ، لا تشرب المسكرات" . و هذه الوصايا الخمس ، قريبة جداً مما هو معروف في الأديان الإبراهيمية بالوصايا العشر.
إن قانون التسامح يمثل مركزية مهمة في العقيدة البوذية حيث الدعوة للتسامح والاحترام والمعاملة الإنسانية من قبل جميع الناس على قدر الإمكان، ومن القبول بالاختلاف في الحياة والمعتقد، ومن التخلي عن كل ممارسات أنانية. كل ذلك من
خلال فلسفة التأمل.
إن جوهر الأديان يحمل السكينة والطمأنينة والسلام والمحبة
مع النفس والآخرين والبحث عن المشتركات الإنسانية المختلفة. أما التعصب الأعمى و النزاع والعنف والشقاق فليست من الأديان في شىء. إنها من صنع أتباع الديانات أنفسهم، وكثير منها غريب على القيم الآسيوية والديانات والثقافات المحلية التي تفاعلت معها وكونوا معا مايسمى بالنموذج الآسيوي في التعددية الدينية والثقافية والعرقية. ومن يتعمق في تعاليم الكونفوشيوسية والطاوية والهندوسية يلاحظ أن نصوصها لا تدعو للعنف أو الكراهية فمن الذي بث روح الفرقة والصراع وأشعل العنف، إن التقسيمات الجغرافية والعرقية التي رسخها الاستعمار الأجنبي كان لها دور في ذلك، لكن لا ننس دور أتباع الديانات أنفسهم
فالأصولية والتشدد الموجودين في كل دين ومذهب تحجب الإنسان عن جوهر الإيمان الحقيقي وتدفعه لكراهية الآخر والعمل بكل السبل نحو إبعاده وإقصاءه وتهميشه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة