تمر اليوم ذكرى رحيل المفكر العربى عبد الرحمن الكواكبى فى 14 يونيو من عام 1902 ميلادية، ويذهب البعض إلى أنه قتل غدرا، بسبب آرائه ومؤلفاته ومنها كتابه المهم" طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذى نلقى الضوء على بعض أفكاره.
عاش عبد الرحمن الكواكبى، خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهى فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" سبب هذا الداء الذى رآه يتمثل فى الاستبداد السياسى، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هى دواؤه.
هذا بحث كتبه عبد الرحمن الكواكبى فى موضوع الاستبداد مستعرضاً طبائعه وما ينطوى عليه من سلبيات تؤدى إلى خوف المستبد وإلى الاستيلاء الجبن على رغبته إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع مناحى الحياة الإنسانية بما فيه الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقى والتربية والعمران ومن خلال التساؤلات يشرح من هم أعوان المستبد وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد وبالتالى كيف يكون الخلاص منه وها هو البديل عنه.
تقول مقدمة الكتاب:
الحمد لله خالق الكون على نظام محكم متين، والصلاة والسلام على أنبيائه العظام هداة الأمم إلى الحق المبين، لاسيما منهم على النبى العربى الذى أرسله رحمة للعالمين ليرقى بهم معاشا ومعادا على سلم الحكمة إلى عليين.
أقول وأنا مسلم عربى مضطر للاكتتام شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجى اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق فى ذاته لا بالرجال، إننى فى سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة وألف هجرية، هجرت ديارى سرحا فى الشرق، فزرت مصر واتخذتها لى مركزا أرجع إليه مغتنما عهد الحرية فيها على عهد عزيزها حضرة سمى عم النبى (العباس الثاني) الناشر لواء الأمن على أكناف ملكه، فوجدت أفكار سراة القوم فى مصر كما هى فى سائر الشرق خائضة عباب البحث فى المسألة الكبرى، أعنى المسألة الاجتماعية فى الشرق عموما وفى المسلمين خصوصا، إنما هم كسائر الباحثين، كل يذهب مذهبا فى سبب الانحطاط وفى ما هو الدواء. وحيث إنى قد تمحص عندى أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسى ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقرّ فكرى على ذلك — كما أن لكل نبأ مستقرا — بعد بحث ثلاثين عاما … بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.
فالقائل مثلا: إن أصل الداء التهاون فى الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس فى الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد … وهكذا يجد نفسه فى حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم ….
وإنى إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التى طالما أتعبت نفسى فى تحليلها وخاطرت حتى بحياتى فى درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أنى ما وافقت على الرأى القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسى إلا بعد عناء طويل يرجح أنى قد أصبت الغرض. وأرجو الله أن يجعل حسن نيتى شفيع سيئاتي، وها هى المباحث:
فى زيارتى هذه لمصر، نشرت فى أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات: الاستبداد، ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدين، على العلم، على التربية، على الأخلاق، على المجد، على المال.. إلى غير ذلك.
ثم فى زيارتى مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسعت تلك المباحث خصوصا فى الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك فى كتاب سميته: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية منى للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم. ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب.
ثم فى زيارتى هذه وهى الثالثة، وجدت الكتاب قد نفد فى برهة قليلة فأحببت أن أعيد النظر فيه وأزيده زيدا مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته. وقد صرفت فى هذا السبيل عمرا عزيزا وعناء غير قليل … وأنا لا أقصد فى مباحثى ظالما بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه … ولى هناك قصد آخر وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل … وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات.
وقد تخيرت فى الإنشاء أسلوب الاقتضاب وهو الأسلوب السهل المفيد الذى يختاره كتاب سائر اللغات ابتعادا عن قيود التعقيد وسلاسل التأصيل والتفريع. هذا وإنى أخالف أولئك المؤلفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل، إنما أقول:
هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتى قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح بابٍ صغيرٍ من أسوار الاستبداد. عسى الزمان يوسعه، والله ولى المهتدين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة