مشهد يبدو متعارضا مع المبادئ التي طالما عرفت بها الولايات المتحدة، لعقود طويلة من الزمن، والتي روجت لنفسها باعتبارها أكبر دعاة الديمقراطية في العالم، حيث هيمن العنف على الاحتجاجات، التي لم تلتزم بالخطوط الحمراء، سواء فيما يتعلق بنطاقها القانوني، أو الجغرافى، فالنشطاء اتجهوا إلى الاشتباك مع قوات الأمن، بينما تعمدوا تخريب الممتلكات العامة، والخاصة، في انتهاك صريح للقواعد المتعارف عليها، بينما امتدت حالة العنف إلى مركز السلطة في البلاد (البيت الأبيض)، مما دفع إلى التحفظ على الرئيس في مخبأ خاص، خوفا على حياته من بطش المتظاهرين، الذين يسعون إلى إثارة حالة غير مسبوقة من الفوضى، تعكس أبعادا سياسية أكبر منها إنسانية، كما هو ظاهر منها.
الاحتجاجات جاءت على خلفية مقتل جورج فلويد، وهو مواطن أمريكى من ذوى الأصول الأفريقية، في ولاية مينينسوتا، ليكون الحادث بمثابة الفتيل الذى أشعل أمريكا، وهو ما يعيد إلى الأذهان مشهدا أخر قبل 10 أعوام، عندما أقدم الشاب التونسى محمد بوعزيزى على إحراق نفسه، احتجاجا على البطالة، وسوء الأحوال الاقتصادية، إلا أن النيران لم تكتفى حينها بالتهام جسده النحيف، لكنها امتدت لتحرق أوطانا بأكملها في منطقة الشرق الأوسط، لتلقى بها بين أنياب الفوضى وعدم الاستقرار، إلى حد اندلاع الحروب الأهلية، وتمكين الميليشيات الإرهابية، من السلطة في العديد من دول المنطقة، حيث خرجت الاحتجاجات حينها من الشوارع والمحافظات البعيدة، ليجد النشطاء مكانهم أمام قصور الرئاسة، يطالبون صراحة برؤوس حكامهم، باعتبارهم المسئولين عما آلت إليه بلادهم من تدهور وتراجع لسنوات طويلة.
ولعل المفارقة الجديرة بالملاحظة هي أن المشهد الأمريكي الراهن يبدو متطابقا مع ما يسمى بـ"الربيع العربى"، فالأمور في "مهد الديمقراطية الحديثة" تطورت إلى الحد الذى ظهرت فيه حركات لتتزعم الاحتجاجات، وعلى رأسها حركة "أنتيفا"، والتي تدعى معادتها للعنصرية، يرتدى أعضائها ملابس سوداء، وأقنعة ليغطون بها وجوههم، وهى الحركة التي أعلن الرئيس دونالد ترامب نيته لوضعها في قائمة التنظيمات الإرهابية، بينما خرج الجيش الأمريكي لمساندة الشرطة في مجابهة العنف، وفرض حظر التجوال في العديد من المناطق، في حين لم يخلو المشهد من محاولة دهس للمتظاهرين بناقلة وقود في ولاية مينينسوتا، ربما ليتحقق التطابق الكامل بين مشاهد الماضى بالمشهد الأمريكي الحالي.
التزامن بين تصعيد الاحتجاجات إلى الحد الذى يهدد مركز الحكم، واقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، يعطى انطباعا صريحا حول تورط الديمقراطيين في إشعال الفوضى، خاصة وأن السيناريو المتبع ليس غريبا عنهم، في ضوء التطابق الكبير في الأحداث بين ما شهدته منطقتنا منذ عقد من الزمان، لتحقيق رؤية أوباما (الرئيس الديمقراطى السابق)، ومن وراءه خطط الحزب الذى ينتمى إليه، والتي كانت تقوم على تمكين التيارات المتطرفة، من السلطة، على حساب الأنظمة الحاكمة ، في إطار صفقة، تقدم خلالها تلك الأنظمة الجديدة فروض الولاء والطاعة للأجندة الأمريكية القائمة على إعادة تقسيم المنطقة، فيما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد".
الحرب التي يشنها الديمقراطيين على الرئيس الأمريكي لا تقتصر في أبعادها على إثارة الفوضى، والتي تعد أحدث حلقاتها، وإنما بدأت بالعديد من الإرهاصات، التي ارتبطت بتفشى فيروس كورونا في العديد من الولايات الأمريكية، عندما أعلن قطاعا من حكام الولايات "العصيان" ضد دعوات الرئيس بالتعايش مع الفيروس، وهو ما يعكس رغبتهم في إطالة أمد الإغلاق، وبالتالي ضرب الاقتصاد الذى شهد قدرا من الانتعاش منذ اعتلاء ترامب سدة البيت الأبيض، وهو ما يمثل أحد أكبر الإنجازات التي يعول عليها الرئيس في حملته الانتخابية القادمة، إلا أن خروج المواطنين للتظاهر تأييدا لرؤيته كانت انعكاسا ليس فقط لفشل الخطة وإنما أيضا لإفلاسهم وعدم قدرتهم على تقديم رؤى جديد، وبالتالي فأصبح اعتمادهم قاصرا على تقويض نجاحات الإدارة الحالية، ولو على حساب المواطن الأمريكي.