عمار محمد محمود

نلسون مانديلا في السودان: وقائع زيارة تأريخية

الأربعاء، 24 يونيو 2020 08:19 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هناك عبارة رائجة عند وسائل الإعلام السودانية ومتواترة في أدبيات دعم السودان لحركات التحرر الأفريقية، تقول بأن الزعيم الأفريقي الراحل، نلسون مانديلا، مُنح جواز سفر دبلوماسي سوداني حينما قام بزيارة للخرطوم في العام 1962م، مما سهّل له التنقّل في بعض بلدان القارة الأفريقية في جولته تلك.

 

هذه المقولة تبسيطية من ناحية، وتفتقر للدقة من ناحية أخرى؛ تبسيطية كونها تحاول تأطير المساندة الكبيرة التي قدمها السودان لحركة التحرر في جنوب أفريقيا وتلخّصها في محض وثيقة سفر للمناضل الكبير، وغير دقيقة لجهة أن مانديلا عندما دخل السودان كان في الواقع يحمل جواز سفر عليه سِمة دخول من إحدى بعثات السودان الدبلوماسية.

 

واقعة منحه جواز السفر السوداني صحيحة في ذاتها، ولكن سنورد السياق الذي تم فيه الأمر من خلال تناول أبرز محطات تلك الزيارة التأريخية.

 

لم يسبق لمانديلا أن خرج من جنوب أفريقيا مطلقاً، وذلك وفاءً لعهد قطعه على نفسه بأن يباشر نضاله من داخل البلاد، وحينما تلقّت حركته، المؤتمر الوطني الأفريقي، دعوةً من "حركة عموم أفريقيا لتحرير شرق ووسط وجنوب القارة (PAFMECSA)" بغرض المشاركة في المؤتمر الذي سينعقد بأديس أبابا في فبراير 1962، قرر المؤتمر الوطني الأفريقي أن يبتعث مانديلا للمشاركة في هذه المؤتمر، وما حفّزه للخروج من البلاد في هذه المهمة هو أنه رأى فيها سانحة ليس للمشاركة في أنشطة المؤتمر فحسب، وإنما للقيام بجولة في بعض الدول الأفريقية المنتقاة لشرح أهداف الحركة والحصول على الدعم السياسي والمالي والتدريب العسكري لعناصرها.

 

إختيار السودان ضمن الدول التي قرر مانديلا زيارتها لم يأتِ بمحض الصدفة. فالسودان، كونه من أوائل الدول الأفريقية التي حصلت على استقلالها، انتهج في فجر استقلاله الباكر توجهاً داعماً للحركات الأفريقية التي تنشد لبلدانها التحرر من أسر الاستعمار، وقد اتخذت هذه السياسة، في حالة جنوب أفريقيا تحديداً، أبعاداً عملية تمثّلت في قطع العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري مع جنوب أفريقيا وإغلاق المطارات والمرافئ السودانية في وجه طائراتها وسفنها، إلى جانب التقدّم، في أطر أفريقية متعددة الأطراف، باقتراح لتدريب عناصر حركات التحرر على أراضيه. وتنويهاً بذلك الدور، ردد مانديلا اسم السودان مرتين في خطابه الذي ألقاه يوم 3 فبراير 1962 أمام مؤتمر أديس أبابا، وقبل أربعة أشهر من زيارته للسودان.

 

حصل مانديلا في أديس أبابا على جواز سفر من الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي لتمكينه من القيام برحلته الأفريقية. ذلك لأن مانديلا خرج من بلاده خفية وما كان بوسعه، نظراً لنشاطه ولون بشرته، أن يحصل على جواز سفر من سلطات الفصل العنصري. تسلل مانديلا إلى بوتسوانا الحالية ومنها إلى تنجانيقا "تنزانيا" التي منحته خطاباً أتاح له السفر إلى إثيوبيا.

 

استخدم مانديلا جواز السفر الإثيوبي في رحلة أخذته إلى شمال وغرب أفريقيا، حيث زار مصر، ليبيا، تونس، المغرب، مالي، غينيا، سيراليون، ليبريا، غانا ونيجيريا. لأسباب أمنية اتخذ مانديلا اسماً مستعاراً، هو ديفيد موتسامايي، في جواز سفره ذاك، وأثناء وجوده في نيجيريا قام بزيارة إلى سفارة السودان في لاجوس للحصول على سِمة الدخول إلى السودان، والتي حصل عليها في 26 مايو 1962 إكرامياً "بالإعفاء من الرسم المقرر" تقديراً لمكانته النضالية.

 

وفي زيارة قمت بها لمتحف الفصل العنصري بمدينة جوهانسبرج قبل ما يزيد قليلاً على العامين تمكنت من تصوير هذه السِمة، وقد لفت انتباهي أن السبب المذكور لمنحها هو "أسباب سياسية"، وفي ذلك اعتراف من السلطات السودانية بالدور السياسي الذي كان يقوم به الرجل.

 

صورة سِمة الدخول الممنوحة لمانديلا من سفارة السودان في لاغوس
صورة سِمة الدخول الممنوحة لمانديلا من سفارة السودان في لاغوس

 

وصل مانديلا إلى الخرطوم في 19 يونيو 1962م وأمضى فيها عشرة أيام كاملة، وبمطالعة صفحات دفتر يومياته الموجود في المتحف المذكور نجد أنه التقى في اليوم التالي لوصوله بمدير الإدارة السياسية بوزارة الخارجية، عثمان العوض، ولاحقاً في ذات اليوم اجتمع بوزير الخارجية، أحمد خير، وفي المساء قابل مانديلا محمد طلعت فريد، وزير الاستعلامات والعمل والشباب والرياضة، وربما يتسائل القارئ عن علاقة هذه الوزارة بالزيارة ذات الطابع السياسي.

 

السبب يعود إلى أن الوزارة كان تستضيف ثلة من شباب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في إطار برنامج تدريبي أخذهم كذلك إلى تنجانيقا وكوبا، وقد أمضى معهم مانديلا اسبوعاً كاملاً في الخرطوم قدّم لهم فيه استعراضاً لمجريات وتطورات الأوضاع في جنوب أفريقيا، ووقف على مضمون برنامجهم التدريبي في السودان، وبالنسبة لمعظهم فإن الخرطوم هي أول مدينة يلتقوا فيها بمانديلا شخصياً. كان من بين أولئك الشباب الدكتور موشوبيلا سيكويي الذي عمل لاحقاً سفيراً لجنوب أفريقيا لدى روسيا وتقلّد أيضاً موقع رئيس مجلس أمناء وكالة الطاقة الذرية بجنوب أفريقيا، ورئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة، كما تقلد آخرون مواقع رفيعة في المجال العام بجنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. وقد وُثِّقت تجربة هؤلاء الفتية، بما فيها أيامهم في الخرطوم، في فيلم أمريكى أخرجه حفيد لأحد أولئك الشباب، يحمل عنوان (حواريون إثني عشر لنلسون مانديلا- Twelve Disciples of Nelson Mandela).

صورة الشباب الذين التقاهم مانديلا بالخرطوم
صورة الشباب الذين التقاهم مانديلا بالخرطوم

 

من الملامح البارزة في زيارة مانديلا للخرطوم مقابلته للرئيس السوداني الأسبق إبراهيم عبود في 25 يونيو 1962. كتب مانديلا في يومياته عن المقابلة قائلاً: (التقينا بالجنرال عبود، رئيس السودان. هو ودود للغاية، وقد تعهّد بالدعم الكامل لنضال الأفارقة من أجل الحرية). وفي سياق هذا الدعم الكامل منحته السلطات السودانية جواز سفر دبلوماسي كتعبير رمزي عن الاعتراف والتقدير لنضاله، ضمن أنواع الدعم السياسي والمالي الأخرى. وقد تمّيز هذا الجواز بشيئين؛ الأول كونه جوازاً دبلوماسياً يمثل الأرفع بين وثائق السفر التي تمنحها الدول، وثانياً هو أول جواز سفر يحمل الاسم الحقيقي للمناضل، فقد كان قبلاً يحمل آخر باسم مستعار، كما سلف الذكر، ولم يحصل مانديلا على جواز سفر من بلاده حتى العام 1990م بُعيد إطلاق سراحه من فترة السجن الطويلة.

 

 

الصفحة الخاصة بزيارة السودان في يوميات مانديلا
الصفحة الخاصة بزيارة السودان في يوميات مانديلا

كان مثيراً للاهتمام أن واحدة من أهم الخطب السياسية في مسيرة مانديلا النضالية، وهي الخطبة التي ألقاها في أبريل 1964م كمتهم بساحة محكمة في بريتوريا، لم تتضمن تلخيصاً لأبرز محطات مسيرته حتى تلك اللحظة فحسب، بل وتقريظاً لبعض الدول والزعماء الأفارقة الذين دعموا النضال السياسي والثوري للسود في جنوب أفريقيا. وقد نال الرئيس عبود مكانة مستحقة في تلك الخطبة التاريخية.

-------------

دبلوماسي وكاتب- السودان

ammar.mahmoud@outlook.com










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة