كثيرا ما استخدمت "إمكانية" كسر قواعد اللغة أو اختيار الغريب منها نحويا أو لفظيا أو اللجوء للتعقيد كباب من أبواب قوتها تعبيريا وصياغيا، وهو الأمر المدهش الذى يقطع بخصوصيتها وروعتها، وقد تعامل اللغويون العرب مع هذه الظاهرة بمرونة، شريطة أن يكون المستخدم لها ذا قيمة وقامة لسببين الأول نفى شبهة الجهل، والثانية استحقاق إنتاجه لأن يكون ميدانا يتبارون فيه، ويهدف الأديب من خلف هذا المسلك "الإبداعى" إلى هدفين ـ أو لهما معا ـ الأول هو الحصول على أكبر قدر من التفاعل والجدل حول إنتاجه، والثانى تعبيره عن الشعور بالتمايز إلى الدرجة التى يظن معها أنه فوق اللغة ذاتها، وأنها هى التى يتعين عليها اتباعه وليس العكس، وكان المتنبى ممن نحو هذا المنحى باحتواء شعره على الغريب وما لا تجيزه العربية قياسا على قواعدها أو حكيا عنها، ومن ذلك هذه الأبيات المتفرقة:
وأن حابى جديـــــــــلة طــــىء به الله يعطى من يشاء ويمنع
::
وما أرضى لمقلته بحــــــــــــلم إذا انتبهت توهمته ابتشاكــــا
::
أروض الناس من ترب وخوف وأرض أبى شجاع من أمـان
فكل بيت من هذه الأبيات لقصدة مختلفة، جمعتهن معا لما فيهن من شواهد، كانت فى البيت الأول خلاف اللغويين على مقصود كلمة "حابى"، فمنهم من قال إنه "بارى" ومنهم من قال إنه مأخوذ من "الحيباء" بمعنى العطاء، أما البيت الثانى فيأتى لفظ "ابتشاكا" كلفظ مهجور بمعنى الكذب، وتتصدر كلمة "أروض" جمعا لـ"أرض" البيت الأخير، وهو جمع لا تعرفه العربية لا حكيا ولا قياسا، للمزيد انظر "أبو الطيب المتنبى دراسة نحوية ولغوية" ـ صـ66ـ د. محمد عزت عبد الموجود ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 2006.
وإذا كانت نصوص البشر قد استفادت من هذه الإمكانية المدهشة للعربية القوية، فإن النص المهيمن الذى نعرفه باسم "القرآن الكريم" وأصر ـ أنا ـ على تسميته بـ"القرآن العظيم" (وهى تسمية ذات سبب لغوى) قد استغله طبعا، مع تعديل الهدفين أعلاه من الحصول على تفاعل أكبر، والغرور المعبر عن الفوقية، إلى ممارسة فعل الهيمنته الحقيقية على اللغة وصولا لمضامينه منها بأقصر الطرق وأكثرها إبهارا، ففى الحين الذى تأتى فيه النماذج البشرية لهذه الإمكانية قاصرة على المنحى "الاستعراضى" تقترن نماذج القرآن العظيم بأغراض بلاغية تجبرنا جميعا على "الإطراق، ومن ذلك الآية الكريمة "ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما"(127 النساء)، تأتى مخالفة لقواعد العربية التى تلزم بعدم استخدام الفعل "رغب" إلا مع أحد حرفى الجر "فى أو عن"، لبيان المقصود منه، فـ"رغب عن" تعنى "زهد وترك"، و"رغب فى" تعنى "أراد وقبل"، والمعنيان ضدان، ومن ثمّ فالفعل بهذه "المخالفة" يؤدى للبس الناجم عن إشارته للمعنيين معا، وهذا بالضبط ما أراده القرآن العظيم، حيث تتحدث الآية عن إعطاء اليتامى من الإناث حقوقهن من ميراث أهليهن عند النضوج، سواء أراد من كن فى ذمته الزواج منهن/ "رغب فى" أو لم يرد/ "رغب عن"، ولهذا تمت الإطاحة ـ عمدا ـ بحرف الجر لتحقيق الحالتين معا.
هذه الإطاحة ليست كسرا "نحويا" و"دلاليا" لقواعد اللغة فقط، بل وأيضا كسر بلاغى لقواعد البلاغة ذاتها، حيث تقضى بأنه "يزاد المعنى إذا زاد المبنى"، لكن فى هذا التركيب حدث العكس، فقد زاد المعنى بنقصان المبنى، وهذه إحدى صور التجلى والهيمنة المثيرة للدهشة التى يمارسها الكتاب العزيز على اللغة، كما انها صورة دالة ايضا على مدى مرونة وقوة هذه اللغة ذاتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة