صدر هذا الأسبوع كتاب جديد باللغة الألمانية للبروفيسور مهند خورشيد عميد معهد الدراسات الإسلامية بجامعة مونستر الألمانية، بعنوان "محامي الله المزيف: خيانة الإسلام"."
الكتاب صادم وثوري في آن واحد، والواضح من العنوان كما يقول مؤلفه: "تحرير الإسلام من بنى القمع والاستبداد الفكري والسياسي باسم الإسلام بفهمنا للإسلام اليوم. حيث يعود بنا في فصوله الأولى إلى مراحل مبكرة من التاريخ الإسلامي حين تأثر المسلمون بعد فتحهم لبلاد الشام وبلاد فارس وانتصارهم على القيصر البيزنطي والملك الساساني الفارسي بالنظريات السياسية التي تبلورت عند الروم وعند الساسانيين والتي جعلت من قياصرة الروم ومن ملوك الساسانيين ظلاً لله في الأرض، يتحدثون باسمه ويحكمون بأمره. تأثر الأمويون ومن بعدهم العباسيون بهذا التوظيف العميق للدين من قبل السلطة السياسية، ونقل مثقفون من أمثال الجاحظ وابن المقفع والماوردي وغيرهم نظريات تداخل الدين والسلطة السياسية، خاصة من الثقافة الفارسية الساسانية إلى الإسلام.
يفند كتاب خورشيد المقولة التي يتبناها الإسلام السياسي اليوم: "الإسلام دين ودولة" وأنها ليست إلا استمراراً لفكر دخيل دخل على الثقافة الإسلامية خاصة من خلال الكتابات التي عرفت بالآداب السلطانية. وظف الخلفاء العباسيون الدين من أجل شرعنة السلطة وجعلوا من السلطة محامياً عن الدين في الظاهر، ضامناً في واقع الأمر لمصالح سلطوية بحتة، جعلوا من أنفسهم ظل الله في الأرض، فاحتاجوا لصورة الإله المتسلط بدل صورة إله الحب والرحمة، كما احتاجوا لهيكل معين للدين يمكن من خلاله السيطرة على الشعوب (فتبلور خطاب الحاكمية باسم الدين وخطاب تطبيق الشريعة). هذا الخطاب الديني الذي بلور صورةً للإنسان على أنه المغلوب على أمره، علاقته بالله وبالتالي بكل سلطة باسم الله هي علاقة استسلام وخضوع، لا علاقة ثقة وحرية يكون فيها الإنسان خليفة الله الذي يملك تحديد مصيره بيده، بل مصيره في يد السلطة، خطاب القمع هذا الذي ألغى الإنسان، تم توظيفه سياسياً ابتداء بالخلافة الأموية سنة ٦٦١م وهو مستمر ليوم الناس هذا.
يتناول الكتاب مظاهر توظيف الإسلام في القرن العشرين من قبل أنظمة سياسية مع أنها كانت تعد نفسها شيوعية أو على الأقل صديقة للشيوعية. لكن وبعد نكسة العام 1967 احتاج العالم الإسلامي، وخاصة العربي، لسردية جديدة يحرك بها عواطف الجماهير تحل محل سردية الخلافة والتي انتهت مع أتاتورك وتحل محل سردية القومية العربية والتي أعلنت إخفاقها مع هزيمة العام ٦٧ فظهر الخطاب الديني كبديل، وبدأت أنظمة علمانية وماركسية تستخدم الخطاب الديني وبدأت المزايدات بين هذه الأنظمة وبين أحزاب الإسلام السياسي، من هو المحامي عن الدين الأكثر إخلاصاً ومصداقية؟ أصبح خطاب التشدد أداة لشرعنة مزيد من السلطة.. كلها مزايدات وازعها السلطة، هدفها السلطة، أحلامها السلطة، السلطة وليس إلا.. والضحية هو الإسلام في ثوبه الروحاني والأخلاقي.. الضحية هو الإنسان نفسه والذي تم مصادرة حريته وبذلك إنسانيته.. بداية تأسيس بنية القمع باسم الإسلام بدأت في فترة مبكرة من تاريخ الإسلام بوازع سياسي يبحث عن تبرير السلطة، انتقلت هذه البنية من المستوى السياسي إلى الاجتماعي والديني.
يرى المؤلف-واتفق معه، أن الإسلام السياسي يشكل اليوم قمة استغلال الدين واللعب على العواطف الدينية من أجل الوصول للسلطة الدنيوية باسم المقدس.. تظهر قمة تغول روح القمع حين يدافع المقموع بنفسه عن بنية وأدوات قمعه، ومثال ذلك هو صورة المرأة المقموعة باسم الدين، حين يقمعها الرجال ويجعلوا منها مجرد عورة، حتى صوتها عورة، فلا يجوز لها أن ترفع الأذان أو ترتل القرآن أمام الرجال، ثم يأتين نساء يكررن هذا الخطاب القمعي اللاإنساني ويدافعن عنه، كذلك حين يدافع المقموع عن قامعه بحجة أن طاعة القامع، أياً كان، هو من طاعة الله، فيتم توظيف الله من أجل تبرير القمع وإلغاء الإنسان وحريته وكرامته.
في الجزء الثاني من الكتاب وفي عشرة فصول يضع خورشيد صورة لفهم الإسلام بعد تحريره من بنية القمع والاستبداد، حيث يطرح عدة تساؤلات ومنها: كيف يمكن فهم الإسلام كرسالة تحرير كما بلغها الرسول عليه السلام؟ كيف تكون صورة الإسلام إذا تحررنا من كل صور وخطابات القمع؟ كيف ستكون صورة الله في أذهاننا وكيف ستكون علاقتنا به؟ كيف ستكون صورة الإنسان لنفسه كإنسان حر أعطاه الله مسؤولية كتابة تاريخه بنفسه وتحمل مسؤولية ذلك، فهو الفاعل فيه وليس ذلك السلبي مجرد المفعول به؟ كيف سيكون فهمنا للقرآن وعلاقتنا به؟ كيف ستكون صورة المرأة ووضعها في المجتمع؟ كيف ستكون صورتنا للإسلام حين نتحدث عن علاقة الإنسان بالله على أنها علاقة حب ورحمة وثقة، لا على أنها علاقة قانونية محكومة بمفاهيم الوصاية؟
رغم أن الكتاب أفكاره ثورية في مجال تجديد الخطاب الديني، إلا أن العالم العربي أيضا يحتاج إلى توجيه ذلك الكتاب، مهما كانت التحديات التي سوف يُوَاجِهُهَا المؤلف، فالأزمة ليست في الحضارة الإسلامية، ولكن في الإسلام السياسي وأنصاره ومنظريه والاستبداد باسم الدين، وفي عدم تقبل ثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وذلك يتطلب المواجهة والنقاش مهما كلف من ثمن أو رد فعل، فالمصلحون يتميزون بسياسة النفس الطويل والنضال الكبير مهما كانت التضحيات والعقبات، فلا ينفد صبرهم ولا تكل عزيمتهم. ومن واجب دعاة الإصلاح ألا ينفروا من أي نقد أو نقاش مهما كان حادا. ولا يلتفتوا لمن يريد تعطيل مشروعهم التنويري والنهضوي.
ومن أجمل ما قرأت في تاويل الآية 97 من سورة الحجر في قوله تعالى:
"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ" قول المتصوف أبي الفتح الواسطي(ت1234م) أن في تلك الآية تعزية للمحسودين من العلماء.
ننتظر ترجمة عربية للكتاب ومزيد من النقاشات حوله، وكل كتاب جديد إسهام في تحرير العقل العربي.