أحمد طنطاوى

ديمقراطية "الاستفهام" وقوة الكتابة التعبيرية النافذة

الخميس، 16 يوليو 2020 04:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

استأذنك ـ عزيزى القارئ ـ فى أن أبدأ أولا بمدخل يؤسس لأنواع أسلوب الاستفهام، فهو يأتى على ثلاثة أشكال (حقيقى، مجازى، خبرى).

الحقيقى.. يتطلب جوابا بنعم أو لا.. مثاله: هل معك نقود؟

المجازى.. لا يتطلب جوابا ولكن يبنى دلالة.. ومثاله قول الشاعر: وهل ينسى أحد مصر؟!

الشاعر لا يطرح هذا السؤال ليحصل على إجابة.. بل طرحه ليبنى دلالة "الاستبعاد أو الاستنكار".. وليست هذه هى الدلالة الوحيدة التى يبنيها.. فقد يبنى دلالات أخرى، منها التعجب أو السخرية والتهكم أو الحيرة.. إلخ، كل بحسب موقفه التعبيرى.

أما النوع الثالث، فهو الاستفهام الخبرى.. وهو ـ فى الحقيقة ـ ليس استفهاما.. لكن أُلحق على الاستفهام لاستخدامه أداة من أدواته.. من أمثلته: شاهد.. كيف تستبدل إطار سيارتك التالف.. الجملة هنا ليست سؤالا/ استفهاما.. لكنها استخدمت الأداة "كيف" لغرض "خبرى" يتعلق بإيصال معلومة، ومن ثمّ فالاستفهامان الحقيقى والمجازى لا بد لهما من علامة ترقيم (؟) أما الاستفهام الخبرى فلا علامة ترقيمية له.

وتختار اللغة الوظيفية النوعين الأول والثالث من هذا الأسلوب فى الغالب، فى حين تنحاز لغة الكتابة الإبداعية (بصورها المختلفة ومنها المقال الصحفى) إلى النوع الثانى، لتمتعه بقوة غير عادية فى الصياغة (الجانب الجمالى) والأثر (الجانب الدلالى)، ذلك أنه قادر على توتير ذهن المتلقى وتحفيزه واستدراجه للتفاعل مع النص، فهو يبنى الدلالة بناءً جزئيا عن عمد؛ ليترك باقى البناء للقارئ، يستكمله هو (راجع المثال: وهل ينسى أحد مصر؟).

 ومن ثمّ ينجح هذا الأسلوب فى صف المتلقى بمحازاة الكاتب دون أن يشعر، فقد تحول من متلقٍ مستهلك للدلالة التى يريد الأخير بناءها إلى متلقٍ منتج لها أو لجزء منها على الأقل، فهو شريك فى القراءة والمناقشة والاختلاف والاجتهاد، كما يقول د. محسن جاسم الموسوى فى كتابه "منعطفات الرواية العربية بعد نجيب محفوظ"، هذه الشراكة هى أهم جوانب القوة فى هذا الأسلوب، فهى تبنى "ديمقراطية" الكتابة الحديثة، الكتابة الحريصة على تفادى التقريرية وفرض الرأى، وعلى التعبير ـ بشكل أكثر مصداقية ـ عن طبيعة الحياة بضبابيتها وتناقضاتها، فضلا عن قدرة هذه الكتابة على التماس مع كل المضامين والتماهى مع كل مستويات اللغة بدءا من  العامية وحتى فصحى التراث.

 

وقد اعتمد البلاغ السماوى الأخير على هذا الأسلوب فى إقامة الحجة على الناس، بـ1260 استفهاما مجازيا، أغلبها يطرحه الله سبحانه وتعالى عليهم، ليأتى نظم القرآن العظيم قائما على الحجاج الديمقراطى العقلانى الداعى للشراكة فى التفكير وإعمال العقل، ونفايا للخطابا الذى يمارس الوصاية على الإنسان ويقرر له ويفرض عليه، أنظر إلى هذه الأمثلة: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ" (البقرة: 28). وعلى الجانب الآخر من المعنى: "أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99).

وأختم مقالى بسؤال من هذا النوع فأقول:

لهذا ألا يجدر بك عزيزى القارئ/ الكاتب أن تدرّب قلمك على هذا الأسلوب، لتصبح قادرا على الكتابة التعبيرية "النافذة"؟

 

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة