شيئا فشيئا بدأت أشعر بقبضة الدولة القوية فى مواجهة مظاهر العشوائية والتسيب والانفلات والتعدى على القانون التى استمرت على مدار 40 عاما، وكان نتيجتها ما آل إليه حال شوارعنا ومبانينا، وبعد أن كنا فى صدارة دول العالم فى جودة وجمال المعمار وفى جمال الشوارع والميادين ، تحولنا الى مضرب الأمثال فى العشوائية والقبح وأصبحنا محل الهمز واللمز من محدثى النعمة وتطاول علينا الإقزام بما آل إليه الحال .
أخيرا قررت الدولة أنه لا عشوائية، ولا تسامح مع مرتكبيها بأية صورة، لذلك لم يلن قلبى وأنا أرى أبراجا مخالفة يتم تسويتها بالأرض، وأنا ضد كل الأصوات التى تطالب بالتصالح، الذى هو مدخل الشيطان الذى تسبب فى تفاقم المشكلة عبر عشرات السنين، وتجرأ الناس على الأراضى الزراعية وعلى خطوط التنظيم، وأصبح الوطن يباع ويشترى على موائد اللئام فى المحليات بآلاف وملايين الجنيهات، لذلك كان ما أعلنه رئيس الوزراء مؤخرا بأن الدولة لن تسمح مجددا بالبناء فى بعض المناطق ذات الكثافات السكانية المرتفعة؟
قد يقول قائل: هذا اعتداء على الملكية الخاصة وما دام هناك من يمتلك قطعة أرض فمن حقه أن يبنيها . قبل أن أجيب اسمح لى أن أحكى لك عن مأساة أعيشها .
سعيت للانتقال للحياة فى حى الدقى، واعتبرت ذلك أهم خطوة فى حياتى وكان أحد أسباب حرصى على الانتقال الى هذا الحى أنه كان عبارة مجموعة فلل لا يزيد فيها الارتفاع عن 4 أدوار، والشوارع هادئة، تملأها الأشجار وبقدرة قادر وخلال عشر سنوات حدثت مجزرة تم خلالها هدم كل هذه الفلل وتحويلها الى أبراج ، وشيئا فشيئا اختفى هدوء الحى، وتحولت شوارعه الى جراجات مفتوحة، والفيلا التى كانت أمامها سيارة او اثنين أصبحت برجا يقطن عشرات الأسر ، وتحولت الحياة الى قطعة من العذاب وتردت أحوال الخدمات فى الحى لأن شبكة المرافق مصممة لخدمة عشر هذا العدد .
وبحكم طبيعة العمل زرت كثيرا من دول العالم شرقا وغربا اكتشفت أن مصر، وكما قال رئيس الوزراء ، تتفرد بأنها الدولة الوحيدة التى تهدم تراثها المعمارى بالارتفاعات المنخفضة وتحوله الى أبراج . كتبت كثيرا فى هذا الأمر وبح صوتى ، وللأمانة خاض الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق معركة شريفة فى هذا الأمر وأصدر قرارات الحاكم العسكرى بحظر هدم الفلل، ولكن تكالب عليه أصحاب المصالح، ولغياب الإرادة السياسية، حاصروه بأحكام قضائية وبمجرد تركه للوزارة بدأت مجزرة هدم الفلل والقصور وتحويلها الى أبراج.. وتحول حى مثل حى الدقى الى حى عشوائى قبيح بعد أن كان يوما مأوى الوزراء وعلية القوم ، وانهيار هذا الحى وغيره من الأحياء التى كانت يوما راقية يخصم من رصيد العمران وجودة الحياة فى مصر ، ناهيك عن تحمل الدولة مليارات الجنيهات لإصلاح ما أفسده هؤلاء الذين تمرسوا على العشوائية التى صبغوا بها حياتنا .
حسب كلام رئيس الوزراء تم وقف تراخيص البناء ( للسكنى فقط ) لمدة ستة شهور وخلال الأشهر الثلاثة المقبلة بحد أقصى، سيتم إعداد مخطط تفصيلى لكل هذه المناطق القائمة بالمدن القديمة، فضلًا عن عواصم المحافظات التى يوجد بها كثافات سكانية عالية. الأهم فيما قال أن هناك أحياء داخل محافظات القاهرة والجيزة والمدن والعواصم القديمة لن يسمح بالبناء فيها مرة أخرى، و بالنسبة للأراضى الخالية من المبانى سيتم البناء عليها لاستخدامات محددة أو توفير تعويض عبارة عن بديل فى المدن الجديدة فى حالة الرغبة فى بناء عمارة سكنية من مالكها.
من حق الدولة أن تنزع الملكية للمصلحة العامة، لإنشاء حديقة عامة حيث تحجرت رئة أحياءنا وتحولت الى كتل أسمنتية، ومن حقها أن تحول الأرض الى جراج، لحل مشكلة شوارع تحولت الى جراجات مفتوحة ، وغير ذلك من الأمور التى تصب فى الصالح العام ، كل هذا على العين والرأس بشرط مراعاة المصلحة الخاصة وتعويض من تنزع أرضه تعويضا عادل بالقيمة السوقية ، حيث لا ضرر ولا ضرار.
الحلم فى مصر أصبح قابلا للتحقيق ومصر لمن لا يعرف، أو لا يريد ان يعرف، أو مخدوع أو موهوم أو على قلبه وعقله غشاوة تتغير للأفضل، ويجب أن تتغير ثقافتنا عن ذاتنا وعن واقعنا والا نرضى بالتسيب والانفلات والعشوائية التى عشنا فيها كل هذه العقود.
شكرا لمن أعادوا لنا نعمة الحلم بغد افضل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة