نقرأ معا كتاب "حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات فى القرن العشرين" للكاتب صموئيل هاينز، والذى يناقش فيه كيف كان للتاريخ أن يكون لو أن المؤرخين اعتمدوا مذكرات الجنود أساساً للتأريخ بدلاً من تصريحات القادة والرؤساء والعملاء؟ هل كان للعالم أن يتغير؟ سؤال لابدَّ منه ولاسيَّما بعد قراءة هذه السرديات.
ويقول "فلاح رحيم" مترجم الكتاب، صموئيل هاينز ناقد وأكاديمى بارز عمل فى جامعة برنستون الأمريكية ونشر العديد من الدراسات المهمة عن أدب الثلاثينات فى بريطانيا كتابه "جيل أودن: الأدب والسياسة فى انجلترا الثلاثينيات (1982) ودرس شعر توماس هاردى وتناول الحقبة الإدواردية فى الأدب الإنجليزي.
لكن ما يجعل كتابه هذا فريدًا من نوعه أنه خدم طيارًا حربيًا فى قوات البحرية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، أى أنه امتحن تجربة الحرب بنفسه وكتب عنها مذكراته فضلًا عن هذا الكتاب.
وهذه المزايا فى شخصية المؤلف تنعكس فى أسلوب كتابه هذا الذى يجمع النبرة الأكاديمية الرصينة الصبورة فى التقصى والتوثيق والنبرة العاطفية المؤثرة المتأملة فى سياقات التجارب الحربية على المستوى الإنساني. وهى مزايا حاز بفضلها هذا الكتاب على جائزة روبرت ف. كندى للكتاب عام 1998.
هذا الكتاب العميق المؤثر بحثٌ جاد موسوعى صادق من أجل فهم حقيقة الحرب أولًا، ما الذى يعنيه أن يجد المرء نفسه فى الخطوط الأمامية مشاركًا فى القتل وضحية له؟ ويجد هاينز أن أفضل وسيلة لبلوغ هذه المعرفة الخاصة هى دراسة المدونات الشخصية للجند المشاركين فى القتال، فيستعرض عددًا كبيرًا من كتب اليوميات والمذكرات والرسائل الشخصية والروايات التى تعتمد سيرة المؤلف والتقارير الصحفية المكتوبة على خط المواجهة. وهو مسح لا تقلل سعته من عمقه، يخلص منه هاينز إلى تقديم صورة حية مؤثرة لطبيعة الحرب الحديثة وما تثير من مشاعر وتداعيات لدى المشاركين فيها. وبينما تنشغل كتب التاريخ والسياسة بالأرقام والسياسات والاستراتيجيات والمواقف يتركز هذا الكتاب على الأفراد الذين يقع على كاهلهم عبء المعركة الفعلية.
حصر هاينز نفسه فى حدود القرن العشرين فرصد بدقة النقلة الكبيرة من حروب الفروسية التى سادت فى القرن التاسع عشر إلى حروب الخنادق والآليات فى القرن العشرين التى همشت المشاركين فيها وأطاحت بالقيم والمعايير الفروسية السابقة. وهنالك رصد دقيق فى الكتاب لتأثير التقنيات الحربية الجديدة على وعى المقاتلين بالحرب وطبيعتها ودورهم فيها. هنالك فصل مطول عن مدونات الحرب العالمية الأولى يستقصى إدراك المقاتلين لأول مرة فى تاريخ الحروب هامشية وجودهم ودورهم بالقياس إلى آليات الحرب الجديدة التى أتاحت القتل عن بعد وبأعداد كبيرة. وهنالك فصلان عن التطورات التى جاءت مع الحرب العالمية الثانية وبرز فيها دور الدبابات والطائرات (وهما سلاحان وفرا للفرد هامشًا لإظهار مهارته وقدرته على المناورة). ويقودنا فصل آخر إلى تجربة حرب فيتنام التى أعادت إلى المشاة هيمنتهم على المعركة ومثلت مأساة إنسانية لكل المشاركين فيها. ينتهى الكتاب إلى رصد حادثتين لهما صلة بموضوعة الإبادة الجماعية هما الضربة النووية لهيروشيما وما سُجل عنها من يوميات ومذكرات ثم معسكرات الاعتقال النازية واليابانية ومدوناتها الفاجعة.