يعرف الفيلسوف الفرنسى "جوستاف لوبون" الذى رحل فى عام 1931 بأن أفكاره لا تزال حية، ومن ذلك جملته الشهيرة "عصر الجماهير" التى يبدو أنها جملة حقيقية تماما، واليوم نتوقف عند كتابه المهم "سيكولوجية الجماهير، حيث أصبحت الجماهير بالنسبة له حقيقة واقعة، تناولها بالدراسة، ويمكن من خلال هذا الكتاب أن نفهم أشياء كثيرة منها "الاستعداد للانتخابات" مثل التى تحدث فى مجلس الشيوخ فى مصر.
ويقول الكتاب تحت عنوان "عصر الجماهير" إنّ الانقلابات الكبرى التى تسبق عادة تبديل الحضارات، تبدو للوهلة الأولى وكأنها محسوبة من قبل تحوّلات سياسية ضخمة، نذكر من بينها الغزو الذى تتعرض له الشعوب، أو قلب السلالات المالكة، ولكنّ الدراسة المتفحّصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالباً أنّ السبب الحقيقى الذى يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هو التغير العميق الذى يصيب أفكار الشعوب، والانقلابات التاريخية الحقيقية ليست هى تلك التى تدهشنا بضخامتها وعنفها، ذلك أنّ المتغيرات الوحيدة الهامّة (أى تلك التى ينتج عنها تجدد الحضارات) هى تلك التى تصيب الآراء العامّة والتصورات والعقائد، وأما الأحداث الضخمة المأثورة التى تتناقلها كتب التاريخ فهى ليست إلّا الآثار المرئية للتغيرات اللامرئية التى تصيب عواطف البشر، وإذا كانت لا تظهر إلى السطح إلّا نادراً، فذلك لأنّ المخزون الوراثى لعواطف عرق بشرى ما هو عنصره الأكثر ثباتاً.
بينما يقول الكتاب تحت عنوان "الخصائص العامّة للجماهير" إنّ كلمة جمهور تعنى فى معناها العادى تجمعاً لمجموعة لا على التعيين من الأفراد، أياً تكن هويّتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم، وأياً تكن المصادفة التى جمعتهم.
ولكنّ مصطلح الجمهور يتخذ معنىً آخر مختلفاً تماماً من وجهة النظر النفسية، ففى بعض الظروف المعينة، وفى هذه الظروف فقط، يمكن لتكتل ما من البشر أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة جداً عن خصائص كل فرد يشكله، فعندئذٍ تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة فى الاتجاه نفسه.
ويضيف : وعندئذٍ تتشكل روح جماعية، عابرة ومؤقتة بدون شكّ، ولكنها تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تماماً، وعندئذٍ تصبح هذه الجماعة ما سأدعوه الجمهور المنظم نظراً لعدم امتلاكى مصطلحاً آخر. أو قل إنها تصبح جمهوراً نفسياً (سيكولوجياً). إنها تشكل عندئذٍ كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير.
ووورد بالكتاب أن ظاهرة أنّ الكثيرين من الأفراد يجدون أنفسهم متجمعين بعضهم إلى جانب بعض عن طريق المصادفة، لا تخلع عليهم خصائص الجمهور المنظَّم. فألف فرد مجتمّع بالمصادفة على الساحة العامّة بدون أى هدف محدد لا يشكّلون إطلاقاً جمهوراً نفسياً. ولكى يكتسبوا خصائصه المحددة ينبغى أن يحصل تأثير بعض المحرّضات التى سنتحدث عنها لاحقاً ونكشف عن طبيعتها.
وعن ذلك قال: "إنّ ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار فى اتجاه واحد يشكل الخصيصة الأولى للجمهور الذى هو فى طور التشكل. ولكن ذلك لا يتطلب بالضرورة الحضور المتزامن للعديد من الأفراد فى نقطة واحدة، ذلك أنه يمكن لآلاف الأفراد المنفصلين بعضهم عن بعض أن يكتسبوا صفة الجمهور النفسى فى لحظة ما وذلك تحت تأثير بعض الانفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قومى عظيم مثلاً، وإذا ما جمعتهم صدفة ما كانت كافية لكى يتخذ سلوكهم فوراً الهيئة الخاصّة بأعمال الجماهير. ويمكن لستّة من البشر أن يشكلوا، فى ساعات معيّنة من التاريخ، جمهوراً نفسياً، هذا فيما المئات من البشر المجتمعين بطريق الصدفة فى مكان ما يمكنهم ألّا يشكّلوه. من جهة أخرى نلاحظ أنّ شعباً بأكمله يمكنه أن يصبح جمهوراً بتأثير من هذا العامل أو ذاك بدون أن يكون هناك تجمع مرئي ذلك أنّه ما إن يتشكل الجمهور النفسى حتى يكتسب خصائص عامّة ومؤقتة، ولكنها قابلة للفرز والتحديد. وتنضاف إلى هذه الخصائص العامّة خصائص خاصّة متغيرة بحسب العناصر التى يتألف منها الجمهور، التى يمكنها أن تعدّل من بنيته العقلية".
ويتابع: "إذاً فإنّ ذلك يعنى إمكان تصنيف الجماهير النفسية، ودراسة هذا التصنيف سوف تبيّن لنا أنّ الجمهور غير المتجانس والمؤلف من عناصر متباعدة يتميز بالخصائص المشتركة نفسها التى تتصف بها الجماهير المتجانسة، والمؤلفة من عناصر متشابهة قليلاً أو كثيراً (نقصد بالعناصر هنا الطوائف، أو الفئات أو الطبقات). ولكن توجد بالإضافة إلى هذه الخصائص المشتركة خصوصيات تتيح لنا إقامة التمايز بينها، وقبل أن نهتم بدراسة الفئات المختلفة من الجماهير، دعونا نتفحص أولاً الخصائص المشتركة لدى الجميع. ونحن نفعل ذلك على طريقة عالم الطبيعيات والنباتات فنبتدئ بتحديد الخصائص العامّة لأفراد عائلة واحدة ثم الخصائص الخاصّة التى تقيم التفريق والتمايز بين الأنواع والأصناف التى تنطوى عليها هذه العائلة بالذات".
ويشرح لوبون: الكثير من الخصائص النفسية للجماهير موجودة لدى بعض الأفراد المعزولين، ولكن هناك خصائص أخرى لا يمكن أن نجدها إلّا لدى الجماعات أو التجمعات. وسنحاول أن ندرس أولاً هذه الخصائص لكى نبيّن مدى أهميتها.
ويقول الظاهرة التى تدهشنا أكثر فى الجمهور النفسى هى التالية: أياً تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه، وأياً يكن نمط حياتهم متشابهاً أو مختلفاً وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإنّ مجرد تحوّلهم إلى جمهور يزوّدهم بنوع من الروح الجماعية. وهذه الروح تجعلهم يحسّون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التى كان سيحسّ بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولاً. وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلّا لدى الأفراد المنطوين فى صفوف الجمهور.
ويضيف إنّ الجمهور النفسى هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصّو الصفوف للحظة من الزمن. إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحى التى تشكل عن طريق تجمّعها وتوحّدها كائناً جديداً يتحلّى بخصائص جديدة مختلفة جداً عن الخصائص التى تمتلكها كل خليّة.