إن تجربة التعلم عن بعد والتي فرضتها جائحة كورونا على غالبية دول العالم كشفت لنا عن بعض الصعوبات الواجب تذليلها بهدف الاستفادة من هذا الأسلوب في التعلم بشكل فعال، ومن أكثر هذه الصعوبات هو اعتماد هذا النوع من التعليم على اتصالات سريعة بشبكة الإنترنت وضرورة السماح لعدد كبير من الطلاب بالدخول على شبكة الإنترنت في وقت واحد لحضور المحاضرة "أون لاين"، ومن المعلوم هو عدم توافر إمكانية الاستخدام الكثيف والمتزامن لشبكة الإنترنت في معظم دول العالم وخصوصاً في الدول الفقيرة والنامية، ولم تسلم أيضا بعض الدول المتقدمة من هذه الصعوبات بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية فقد ذكرت وكالة أنباء أسوشيتد برس في إحدى تقاريرها أن أكثر من ثلاثة ملايين طالب أمريكي لا يملكون اتصالًا بشبكة الإنترنت في منازلهم.
وعلى الرغم من صعوبات التجربة في مصر وغيرها من دول العالم إلا أن التحول إلى نماذج تعليمية تمزج بين التعليم التقليدي وجها لوجه في قاعات المحاضرات والتعليم عن بعد عن طريق منصات التعلم الالكترونية -أو ما يسمي التعليم الهجين- لم يعد رفاهية ولا حلا مؤقتاً لمواجهة أزمة طارئة بل أصبح ضرورة ملحة لحل مشكلات مزمنة في التعليم المصري أهمها وأكثرها إلحاحا هي مشكلة تكدس الطلاب في قاعات المحاضرات, بسبب الزيادة السكانية غير المتوازنة مع الموارد من ناحية وزيادة الطلب على خدمات التعليم من ناحية أخرى, كما أن الحكمة تقتضي بأن نكون مستعدين دوما لمواجهة أزمات مماثلة للأزمة الحالية عن طريق وجود مقررات تدرس عن بعد بشكل دائم فيكون الطلاب والأساتذة على أهبة الاستعداد للتحول الكامل نحو التعليم عن بعد في حالات الضرورة بدون مواجهة نفس الصعوبات التي عانينا منها أثناء تطبيقه خلال أزمة كوفيد 19.
في الواقع ودون مواربة فلقد تغير مفهوم التعليم التقليدي في العالم بشكل جذري خلال العقود الثلاثة الماضية ولم يعد الحضور الفعلي في قاعات الدراسة هو الخيار الوحيد خاصة بعد ظهور الإنترنت والتقنيات الجديدة. ففي الوقت الحاضر، يمكن لطالب العلم الوصول إلى تعليم عالي الجودة في أي وقت ومن أي مكان، طالما يملك حاسبا شخصيا متصلا بالإنترنت. ووفقًا لأحدث استطلاع أجرته شركة أبحاث بابسون الأمريكية Babson Survey Research Group، فإن أكثر من 30% من طلاب الجامعات في الولايات المتحدة قد درسوا مقرر واحد على الأقل عن بعد. وربما لا يعلم الكثيرون أن التعليم عن بعد هو أسلوب تعليم قديم جدا وليس وليد الأمس القريب، وبدأ حتى قبل اختراع الحاسب الآلي والانترنت في مؤسسات التعليم، حيث بدأ عام 1873 فيما عرف وقتها باسم "التعليم بالمراسلة"، وكانت المؤسسة التعليمية تقوم بتصميم المحتويات التعليمية اللازمة للتعلم الذاتي تلبية لرغبة التعلم لدى بعض الطلاب الذين لا يستطيعون الانتظام في الدراسة وترسلها لهم عبر البريد, ويقوم الطلاب بإرسال التكليفات بالبريد أيضا.
وبخلاف أن التعليم عن بعد هو حل عملي لمشكلة تزايد أعداد الطلاب وكثافة الفصول وقاعات الدراسة بما لا يسمح بتعليم تفاعلي بين الأستاذ وطلابه, فهناك عدد آخر من مميزات هذا النوع من التعليم نورد في هذا المقال بعضاً منها، فأهم ما يميز التعليم عن بعد هو "المرونة" حيث يمكّن تقديم المحاضرات والدروس بجدول زمني يناسب الجميع, طلابا ومدرسين، كما أنه يحقق التوازن بين العمل والدراسة ومن ثم لا يحرم المشتغلين من استكمال دراستهم وخصوصا في حالة استكمال الدراسات العليا مع العمل، كما يتيح التعليم عن بعد للمؤسسات التعليمية مرونة كبيرة في طرح عدد أكبر من المقررات الاختيارية دون تكاليف مادية إضافية كبيرة، ويتيح أيضًا إمكانية تسجيل المحاضرات عبر التقنيات الحديثة وبالتالي يمكن للطالب الرجوع للمادة العلمية المصورة وقتما شاء مما يحقق استفادة أكبر من محاضرات الأستاذ نظراً لتوفرها طول الوقت, وتتيح هذه التقنيات بعض المعايير الخاصة بحماية الملكية الفكرية لمحاضرات الأستاذ بحيث لا يمكن تداول المادة العلمية المصورة إلا بين الطلاب المسجلين في المقرر.
علاوة على ذلك فإن هذا النظام يتيح إمكانية الدراسة أو التدريس من أي مكان في العالم, مما يعني عدم الحاجة للتنقل من مكان إلى آخر للحضور والتعلم، وهذه الميزة تحقق استفادتين عظيميتين للتعليم المصري, الأولى هي إمكانية استيعاب عدد أكبر من الطلاب الوافدين وهم في بلادهم دون الحاجة إلى توفير أماكن للإقامة وتوفير أماكن في قاعات الدرس, وهذا الأمر سيساهم بشدة في رفع ترتيب الجامعات المصرية في التصنيفات الدولية ويحقق دخلًا قوميًا إضافيًا لمصر من مصروفات الدراسة للوافدين والتي ستكون في هذه الحالة بتكلفة أقل على الطالب الوافد، والاستفادة الثانية هي إمكانية الاستعانة بأساتذة مرموقين من جميع أنحاء العالم لتدريس أو المشاركة في تدريس بعض المقررات دون الحاجة إلى استقبالهم في مصر, مما سيسهم في رفع مستوى التعليم المصري ولن يكلف الدولة أموالا طائلة كنا سندفعها في حال استقدام هؤلاء الأساتذة فعليا لمصر.
ومن هنا وبدون شك هناك مزايا عظيمة لهذا النظام, والتي بطبعها تتعدى مجرد تحسين جودة المحتوى التعليمي وتمتد لتكون لها فوائد مادية واقتصادية وخدمية هامة مما يشجع أي أحد ليلقي بكل رهاناته في كفة التعليم عن بعد، ولو فعل هذا فلا لوم عليه، ولكن نحن بشر قبل كل شئ, والتواصل المباشر وجها لوجه يعد سمة محورية لمعايشتنا للعالم ولتواصلنا الفعال مع الآخرين, مما يجعلنا -و بالرغم مما عرضنا من فضائل عظيمة للتعلم عن بعد- لا نزيح نظام التعليم التقليدي جانبا بشكل كامل, وذلك لما يستمر هذا النظام التقليدي في تقديمه لنا في العملية التعليمية.
فعلى الرغم من مزايا التعليم عن بعد الكثيرة المذكورة أعلاه إلا أن تجربة تطبيقه فعليًا في الفصل الدراسي الثاني والتي دفعتنا إليها جائحة كورونا أثبتت أيضًا أنه لا يمكن الاستغناء عن الحضور الشخصي للطالب في بعض المقررات والتى تحتاج إلى إشراف مكثف من الأستاذ وتحتاج إلى التفاعل الشخصي وجها لوجه بين الأستاذ وطلابه، كما أنه وبلا شك عند طلابنا المصريين, كما لدى كل طلاب العالم, فالانتماء المكاني والارتباط بالتزامات للذهاب والحضور تجعل الطالب أكثر انضباطًا واهتمامًا بما يدرس عن مجرد فتح حاسبه الشخصي متى لاءم ذوقه، ومن ثم فالحضور الفعلي يظل دافعًا أقوى للاهتمام بالمحتوى التعليمي والالتزام من كافة القائمين على العملية التعليمية, فنحن بشر قبل كل شئ.
ولهذا ونظرًا لضروريات الإشراف المباشر والحاجة للإلتزام فإن الحكومة المصرية تسعى بداية من العام المقبل إلى تطبيق نظام التعليم الهجين، والذي يعتمد على الدمج بين التعلم التقليدي وجها لوجه والتعلم عن بعد، ومن خلال الدمج بينهما سيتمكن الطالب من الحصول على الجانب المعرفي المطلوب لتنمية مهاراته العملية مع اكتساب بعض المهارات من خلال التعلم عن بعد، مما يُسهم في تقليل الكثافة الطلابية الشديدة في المدارس والجامعات, مع تحقيق أقصى استفادة ممكنة من البنية التحتية لتلك المدارس والجامعات، وأرى أنه ولأجل تحقيق الاستفادة القصوى من هذا الدمج أن يتاح للطلاب الذين لا يستطيعون الانتظام في الفصول الدراسية -مثل المصريين بالخارج والوافدين- إمكانية التعلم عن بعد بشكل كامل في كل المقررات.
وخلاصة الأمر فإن نموذج التعليم الهجين والذي يجمع بين الأسلوب التقليدي وأسلوب التعلم عن بعد ينطوي على مميزات عديدة تمثل في نفسها حلا لمشكلات مزمنة للتعليم المصري، ونجاح هذا النموذج يتطلب منا عملًا أكثر لتذليل الصعوبات التي قد يقابلها والمتمثلة في عدم قدرة الكثير من الطلاب على الوصول إلى شبكة انترنت سريعة, وعدم قدرة البعض على امتلاك جهاز حاسب آلي يمكنهم من التواصل مع الأساتذة عبر الشبكة العنكبوتية، وللتغلب علي تلك العقبات فيمكن إتاحة باقات إنترنت مدعومة لطلاب المدارس والجامعات فى فترة الدراسة والامتحانات فقط، فجزء من التكلفة التي تم توفيرها بتقليل الحضور والضغط على خدمات المؤسسة التعليمية يمكن توجيهه لدعم خدمات التواصل عن بعد مع الطلاب.. كما يجب على القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني أن تلعب دورًا تعليميًا أصبح متاحًا لها ولأول مرة بشكل سهل ويحقق من مسؤولياتها تجاه المجتمع وذلك عبر المساهمة في دعم الطلاب غير القادرين بأجهزة حاسب آلي مناسبة تساعدهم على استكمال دراستهم, على أن توفر الجامعات والمدارس أيضًا معامل للحاسب الآلي بأجهزة متطورة وتكون متاحة للطلاب من الصباح للمساء، ولدينا بالفعل نواة تلك البنية التحتية, وكل ما في الأمر, أننا نحتاج لشحذ جهود أكبر وإعادة هيكلة للموارد القائمة ومشاركة أكثر للأدوار لخدمة هذا النموذج والذي سيعود بالنفع على الجميع بلا شك.
د. محمود السعيد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة