تمر اليوم ذكرى ميلاد الزعيم المصرى مصطفى كامل، الذى ولد فى 14 أغسطس 1974 ورحل فى 10 فبراير 1908، ورغم الدور الكبير الذى قدمه "مصطفى كامل" فى تحرير القضية المصرية، لكن نجد البعض لم يكن يحبه، ومن هؤلاء الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، فلماذا حدث ذلك؟
يقول عباس محمود العقاد فى كتابه "رجال عرفتهم" عن الزعيم مصطفى كامل،رأيت مصطفى كامل لأول مرة وأنا فى الخامسة عشرة؛ أى فى مثل سنه يوم تصدى لقيادة "الوطنية المحلية" بحى الصليبة.
كنت ببلدتى أسوان أشتغل مع زملائى بإحدى الدعوات المحلية، وهى دعوة التطوع للتعليم بالمدارس الأهلية.
وقد تَقَدَمَنَا فى هذه الدعوة، زميل لنا فى مدرسة أسوان الأميرية، تخرج قبلنا وانتظم فى وظيفة عسكرية بمصلحة خفر السواحل، وهو اللواء محمد صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، وكان يساعد المدرسة الأهلية التى تبعناه فى التعليم بها ويتبرع لها بالمال من مرتبه، بعد أن حيل بينه وبين التطوع للتدريس فيها.
وقدم مصطفى كامل إلى أسوان فى موسم الشتاء، ومعه الأمير حيدر ومدام جولييت آدم وكاتبة إنجليزية من الأحرار تسمى مسز يونج — على ما أذكر — وهم جميعًا فى رحلة نيلية.
وخرج مصطفى كامل ذات صباح يتمشى على شاطئ النيل ومعه الكاتبتان الفرنسية والإنجليزية، فوقفوا عند باب المدرسة الأميرية وسألوا البواب عن "حضرة الناظر" فغاب هنيهة، وعاد يقول له: إنه غير موجود!
وذكر مصطفى كامل أن صاحب المدرسة الأهلية — وقد كان يراسل اللواء — قد دعاه إلى زيارتها، فقال لصحبه: مدرسة بمدرسة، فلنذهب إلى المدرسة التى "ناظرها موجود".
ودخل غرفة السنة الرابعة وفيها درس اللغة العربية، فجلس مكان التلميذ الذى كان يكتب على اللوحة، وأملى عليه هذا البيت لأبى العلاء ليعربه ويشرح معناه:
والمرء ما لم تفد نفعًا إقامته غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وترجم مصطفى كامل هذا البيت إلى اللغة الفرنسية فى طلاقة وثقة، وناقش التلميذ فى شرح معناه، فتلعثم التلميذ ولم يجب بطائل، فأسعفته معتذرًا له بأن الغيم الذى لا يمطر فى أسوان ولا يسير نعمة محبوبة، وأن الغيم الممطر وغير الممطر عندنا قليل!
ولاح لى أن "الباشا" لم يسترح لهذا التعقيب، ولم يتقبل منه الإشارة إلى خطئه فى اختياره، وإن لم يكن فى الأمر غير فكاهة تتلاقى فيها التخطئة والتصويب.
صورة مصطفى كامل التى بقيت فى خلدى مدى الحياة، هى الصورة التى انطبعت فيه من أثر هذه الرؤية الأولى.
حركاته كلها كانت تنم على إحساسه بدقة تكوينه، يبدو ذلك من شموخه وزهوه، كما يبدو من طول طربوشه وارتفاع كعبه، ومن سترة "البنجور" التى كانت لا تلائم سنه وهو دون الثلاثين.
وهذا البيت من قصيدة أبى العلاء، أليس فيه تعريض بالأجسام التى تسد عين الشمس فتحجب الضياء ولا تجود بقطرة من الماء؟
وربما شغلته دقة تكوينه بسمت الوقار، فلم تسمح لها بمجاراة روح الفكاهة، ولا سيما الفكاهة على حسابه، والفكاهة التى فيها تخطئة لاختياره.
وقد كان من شأن المواقف الأخرى التى اقتربت فيها من شخص مصطفى كامل، أن تؤكد هذه الصورة ولا تمحو عندى ظلًّا من ظلالها.
كنت أحرر صحيفة "الدستور" مع صاحبها الأستاذ محمد فريد وجدى، وكان الأستاذ وجدى أحد الأعضاء الذين دعوا إلى تأسيس الحزب الوطنى قبل وفاة مصطفى كامل ببضعة أشهر، فلما انتهى رئيس الحزب من عرض برنامجه، اقترح إرسال تبليغ بالبرق إلى وزارة الخارجية البريطانية لإعلانها بتأليف الحزب الوطنى ومطالبتها بالجلاء، فأقره الأعضاء جميعًا على اقتراحه، ما عدا الأستاذ "وجدى" الذى كان من رأيه أن يعمم إرسال التبليغ إلى جميع الدول، دفعًا لشبهة "المركز الخاص" الذى تدعيه بريطانيا العظمى باحتلالها هذه البلاد، فأبى مصطفى تعديل اقتراحه وأصر على طلب قبوله بصيغته التى عرضه بها على الأعضاء، وكاد أن يقاطع صاحب "الدستور" فلم يتبادلا الزيارة بعد ذلك، إلى أن توفى مصطفى فخرج صاحب "الدستور" من قطيعته ورثاه بمقال حزين جعل عنوانه: "مال أكبر رأس فى مصر. إنا لله وإنا إليه راجعون"، فلم تزل كلمة "أكبر رأس" تعلق بذاكرتى منذ ذلك اليوم إلى أن ذكرتها فى كلمتى عن "الملك أحمد فؤاد" بمجلس النواب: أكبر رأس يحطم الدستور.
كنت أحرر صحيفة الدستور مع صاحبها كما تقدم، وكان صاحبها عضوًا فى الحزب الوطني، والصحيفة لسان من ألسنة هذا الحزب القليلة فى ذلك الحين بين الصحف اليومية والأسبوعية، كانت "الدستور" لسان الحزب الثانى و"اللواء" لسانه الأول، ولكنى لم أشترك فى الحزب بعد إعلان تأليفه كما اشترك فيه زملاؤنا الصحفيون، ولا يخطر لى الآن، ولم يخطر لى قبل الآن، أن تلك الصورة التى ارتسمت فى ذهنى من لقاء مصطفى كامل للمرة الأولى هى التى أخرتنى عن طلب الاشتراك فى حزبه، فلم يزل مصطفى كامل أحب المجاهدين إلينا فى حومة القضية الوطنية بين أصحاب الصحف وأعلام القضية المصرية يومذاك، وكنت أتشيع له إذا نشبت المعركة بينه وبين خصومه، وبعد أن عرفت من حقائق الدعوة الوطنية وحقيقة نفسى ما لم أكن أعرف، أستطيع أن أقول إن اختلاف الطبيعة البعيد قد رسم أمامى مثالًا للإمامة المذهبية غير هذا المثال، فإن مصطفى كامل كان من أصحاب الطبيعة الخطابية الشعورية، وكانت الطبيعة الأدبية والفكرية أقرب إلى وأحرى بالاتباع، فضلًا عن نفور أصيل عندى من التقيد بالحزبية فى الرأي، أيًّا كان مقصدها فى السياسة أو الأدب أو الثقافة على الإجمال.
واختلاف الطبيعة هو الذى جعل لى سبيلًا فى المسائل القومية غير السبيل التى كان يختارها مصطفى كامل فى كثير من مواقفه العامة.
فلم يعجبنى موقف المصرى المتوسل أمام تمثال فرنسا يناجيها ويناديها:
يا فرنسا يا من رفعت البلايا عن شعوب تهزها ذكراك
أنقذى مصر إن مصر بسوء وارفعى النيل من مهاوى الهلاك
ولم يكن أدب فرنسا، ولا ما اطلعنا عليه من تاريخ ثورتها، داعيًا عندنا للثقة بنجدتها واستعدادها لإنقاذ مصر أو سواها، ولم تكن طبيعتى التى تأبى طلب المعونة من القادرين عليها كما تأبى طلبها من العاجزين عنها مما يقنعنى بإمكان التعويل فى قضية الاستقلال على معونة دولة قط، من الدول الكبار أو الصغار.
ولهذا أيضًا لم يعجبنى تعليق الاستقلال المصرى بالسيادة العثمانية؛ لأننا على عطفنا الدائم على الدولة العثمانية فى مكافحتها للتعصب الأوروبي، لم نكن نفهم أن هذا العطف ينتهى بجهادنا إلى الرضا باستقلال تشرف عليه سيادة دولة أخرى، وقد كان مصطفى كامل يمزج كثيرًا بين المصرية والعثمانية حتى فى أحاديثه الخاصة، كما قال فى جوابه لسؤال الجنرال «بارنج» شقيق لورد كرومر: هل أنت مصرى أو عثماني؟ فكان جوابه: مصرى عثماني. وعجب الجنرال بارنج فعاد يسأله: كيف تجتمع الجنسيتان؟
قال مصطفى: ليس فى الأمر جنسيتان، بل فى الحقيقة جنسية واحدة؛ لأن مصر بلد تابع للدولة العلية، والتابع لا يختلف عن المتبوع فى شيء من أحكامه.