رحلت شويكار على سرير مستشفى فى غضون يوم وليلة، انفجرت المرارة؛ سبب غريب لموت "فتافيت السكر" حسب معنى اسمها فى أصله الفارسى الذى يتضمن معنى آخر وهو الموفقة فى عملها، كأن الموت هكذا هو طريقتها الجديدة فى المراوغة، لعبتها التى مارستها معى منذ العام 2016، لما توطدت علاقتنا بعد أن كلفنى المخرج سمير سيف بعمل كتاب عنها، لتكريمها فى المهرجان القومى للسينما الذى كان يرأسه وقتذاك، بينما اعتبرها واحدة من أيقونات حظه؛ إذ شاركت فى بطولة أول أفلامه "دائرة الانتقام" (1976)، أربع سنوات من الحضور المبهج الذى طبعته بلمسة من حماستها، ضحك باذخ، نقاش حاد، متابعة مكترثة لأخبارى وأخبار الدنيا، مد وجذر بين طاقتها الهائلة ومغناطيسيتها كشخصية محبة، وبين نزوعى أحياناً للصمت أو الحديث بدون توقف.
المرة الأخيرة التى هاتفتها لم نتحدث كثيراً؛ طلبت هذه المرة أن تتحدث مع أمى كى تواسيها فى مرضها، حديث متدفق وعفوى لم أتبينه بسبب صوت أمى الواهن، لكن من خلال حركة جسدها الهش، بدا كأن ثمة فرح يناجيها ويراعيها عند الطرف الأخر، إنها ألفة وبشاشة شويكار التى تعرف كيف تجلب الطمأنينة، رحلت أمى وها هى شويكار تلحق بها إلى أفق أوسع من جغرافيتنا الضيقة المعقدة، الملتبسة.
شويكار شفيق إبراهيم شكرى طوب صقال، اسمها العائلى بالكامل الذى اكتفت منه بـ"شويكار" فقط؛ أو بـ"شوشو" مثلما كان يناديها فؤاد المهندس، "الأستاذ" كما تناديه هى حتى آخر لحظة، حين أوصتنى: "اكتبى إنت وزمايلك، طالبوا بمسرح يحمل اسم الأستاذ، لأنه يستحق"، من نقطة الوفاء هذه لا بد أن أعترف أننى عندما شرعت الكتابة عن شويكار، فعلت ذلك بمفهوم سهل وبسيط، يستدعيها كواحدة من أيقونات الفرح والجمال كاملة التكوين فى تاريخنا الفني؛ وعلى اعتبار أن ثمة بشر خلقهم الله ليحرضونا على البهجة والتوهج الذى يسكن وجداننا ومخيلتنا، فحين نتحدث عن شويكار لا بد أن يقودنا الحديث إلى التجلى الحر للنجاح فى دلالة وخفة الظل والجاذبية والسحر الوحشى والأنوثة الطاغية والعيون الجريئة المقتحمة التى تحتمل أكثر من تأويل جمالى والصوت المنغم الذى يفكك حروف الأبجدية على مهل تمثيلاً وغناءً.
شيء كالحلم عابر للزمن ويتحرر من وطأة الواقع ويتدحرج منه النور والغواية فى آن واحد، "شيء لا يصدقه عكل" كما جملتها الشهيرة والرائجة التى تعلقت بها الذاكرة، إنها خلطتها السرية التى اتبعناها وكبرنا معها دونما أن نفهم ما وراء المفاهيم، فقط خطفنا عنفوان الصورة والإشراقة الكبرى ونضرة الإطلالة، لكن شويكار تحمل سمات أجمل وأعمق من الوقوف عند الإطار الخارجى للصورة، فهى ليست مجرد حسناء تسللت إلى مدائن الفن داخل حصانها الطروادى الذى يخطف الأبصار بجمال استحق لقب "سيدتى الجميلة"، لكنها تمثل بكل وضوح النموذج للنجمة الذكية التى لم تجعل جمالها حاجزاً للتواصل مع الأخرين؛ بل جعلته طيعاً ورشيقاً لا يتشبث بمساحة واحدة فى الأداء ومع ذلك لا يتباطأ فى الإعلان عن نفسه.
لعل ما ساعدها على هذا التوهج هو المناخ العام الذى تزامن مع خطواتها الأولى فى بداية الستينيات، تلك الفترة التى عكست تفاعلاً متنامياً بين المجتمع والسينما والفن عموماً، حيث كان هناك اتجاه يدعم التمرد ضد الصور التقليدية ويكرس لصورة جديدة لها حيثيتها فى إطار الأفكار الجديدة التى كرستها ثورة يوليو حينذاك، هذا التنامى ظهر فى أبهى صوره من خلال موضوعاته التى انفتحت على حكايات جديدة وشخوص فارقين، حيث تبدلت الأحوال وصارت الجميلة الأرستقراطية ذات الجذور التركية؛ هى البطلة الشعبية والكوميديانة بمواصفات جديدة وثورية لا تشترط على ممثلة الكوميديا أن تفتقر للجمال.
بالرغم من أنها عُرفت فى البداية سينمائياً عبر دورها فى فيلم "حبى الوحيد" (1960) للمخرج كمال الشيخ، لكن المسرح هو من صنع نجوميتها وكانت تنثر من روحها كل ليلة على خشبة المسرح مع أستاذها ورفيقها فؤاد المهندس قبل أن تنتقل تجربتهما إلى أفق السينما الأرحب الذى منحها الفرصة الأكبر لإظهار إمكانياتها التمثيلية والتدرج من منطقة المؤدية لأدوار الفتاة النزقة الدلوعة التى واصلت بها إيقاعها اللافت على المسرح، من صدفة بنت بعضشى التى كانت تلوّح بذراعيها وتتبعها ساقيها فى حركات صبيانية ويطاوعها جسدها فى مرونة ومهارة ولا أحد يستطيع أن يروضها إلى الغنوجة الوديعة فى أفلام مثل "اعترافات زوج" و"اقتلنى من فضلك" و"إجازة بالعافية" و" أخطر رجل فى العالم" و"شنبو فى المصيدة" و"مراتى مجنونة مجنونة" و"العتبة جزاز" و"إنت اللى قتلت بابايا" و.. غيرها، إلى منطقة المحترفة التى عرفت كيف تكون أكثر نضجاً فى التمثيل وألا تهدر إمكانياتها عند الخط الواهى للنجومية الشكلية بدرجة تثير العجب كما فى "حديث المدينة" و"السقا مات" و"بيت القاضي" و"أرزاق يا دنيا" و"سعد اليتيم" و"دائرة الانتقام" والعديد من أفلام راهنت على موهبتها وفهمها المختلف، على دهاء الأنثى وغواية الشخصية، على الجوهر والشكل معاً، أفلام راهنت على الممثلة أكثر من النجمة.
المثير فى كتابتى عنها أنها لم تكن كتابة بحثية من الخارج اعتمدت فيها على قراءتى عنها أو متابعتى لأفلامها والتنوع المتموج فيها من مرحلة إلى أخرى، بل جاءت فرصة مقابلتها لأجد نفسى أمام شخصية حيوية، ذكية، حاضرة الذهن؛ لكن الأهم أنها مراوغة ترد السؤال بسؤال ولا تعطى هدنة لمسار حوار عادى، فالأمر ليس مجرد ضغطة على زر إليكترونى والإصغاء لاسترسال الحكى والسرد، فبمجرد أن أنحو بها تجاه هذه النقطة؛ تفلت منها كأنها تتفادى الوقوع فى شرك الكلام التقليدى، ولما اسألها مثلاً عن إعداد الممثل وكيف كانت تجهز نفسها لشخصية معينة أو كيف كانت تتلون من دور لآخر؛ من سيدة أرستقراطية إلى امرأة شعبية، تتحفظ على السؤال ثم ترد بحسم: هو يعنى أنا لو قمت بدور مجنونة لازم أكون نزيلة مستشفى الأمراض العقلية، ثم تستطرد ولمعة ما فى عينيها: "المسألة كانت بتحتاج شوية تركيز وشوية اعتماد على مخزونى الشخصى من تجربتى الحياتية، وقبل كل ده موهبتى اللى هى نعمة ربنا عليّ". ولما أسألها مرة أخرى عن كتب قرأتها بغرض التعرف أكثر على الجزء الخفى فى شخصيتها، تقول: بحكم دراستى فى مدارس فرنسية، كانت قراءاتى بالفرنسية فى الأدب الفرنسى ومن خلال كلاسيكياته مثل فولتير وفيكتور هوجو، أما قراءاتى بالعربية فقد قرأت لنجيب محفوظ ويوسف إدريس والسباعى وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم، تقريباً قرأت لهم كلهم إلا طه حسين لم أقرأ له سوى رواية دعاء الكروان لأن لغته العربية صعبة جداً. ثم تحوّل الدفة تجاهى وتسألني: وأنتِ، ما هى نوعية قراءاتك؟ فلما أخبرها: لأننى درست فى مدارس الحكومة باللغة العربية فقد بدأت بقراءة الأدب المترجم؛ وبدأت بالأدب الروسى القديم تحديداً، تهز رأسها وتسألنى بطريقة عادية أدهشتني: إنتِ شيوعية؟! وعلى الرغم من أن السؤال لم يعد له معنى فى زمن الكوكتيل الكونى الذى نعيشه حالياً، لكنى تأكدت فى هذه اللحظة أننى أمام امرأة "عقل"، لا تتعامل مع العالم بسطحية وخفة أو حسب هواجسها؛ وإنما تمضى إلى معرفتها بالتأمل والأسئلة التى تنبعث من كل نبض فيها، حوارى معها كان أشبه بلعبة الشطرنج مع لاعب محترف، هو بالضبط يشبه أدوارها فى أفلامها ونضجها الفنى والإنسانى، أمر أشبه باللغز الحي؛ حسب توصيف الناقد الكبير د. أحمد يوسف فى كتابه "نجوم وشهب فى السينما المصرية" الذى يقول فيه: "جمالها هو غموضها، وصعوبتها فى سهولتها، وبريقها هو مراوغتها الزئبقية"، هذا يفسر حضورها الأخاذ لتكون النجمة الاستثناء كما أطلق عليها بعض النقاد بعد مشوار حافل بالنجاحات والانكسارات والأوجاع والأفراح، النجمة والممثلة والاستعراضية التى اختصرت التناقض بين الشكل والجوهر فى نموذجها المتفرد وعلمتنا أن جمالها يعوّل عليه ولا يستخف به.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة