بعدما مات عبد المطلب قام أبو طالب برعاية سيدنا محمد، عليه السلام، وكان يناديه "ابنى" وكان يخاف عليه، حتى أنه عندما خرج إلى تجارة فى الشام أخذه معه، وفى الطريق التقى بالراهب "بحيرى" فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية تحت عنوان "فصل فى خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبى طالب إلى الشام":
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله ﷺ - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معى ولا أفارقه ولا يفارقنى أبدا - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرى فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو فى صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله ﷺ فى الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.
ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله ﷺ حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟
قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله ﷺ من بين القوم لحداثة سنه فى رحال القوم تحت الشجرة.
فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التى يعرف ويجده عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف فى رحالنا.
قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال: فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال له: لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله ألا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. فقال له: سلنى عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله ﷺ يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التى عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرى: ما هو بابنك وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.