عام وراء آخر، ومع كل عيد أو مناسبة، أصبح السائد هو التهانى الجاهزة، التى تصل إلى الجميع عبر صفحات فيس بوك، أو تطبيقات واتس آب، أو غيره. بالطبع فإن الأمر لا يمنع الاحتفال أو اللقاءات والزيارات الجماعية والفردية، لكن حتى هذه اللقاءات لا تخلو من انفراد كل واحد مع نفسه ومع عالمه الافتراضى، حتى الضحكات والكوميديا صارت هى الأخرى جاهزة تنتقل عبر الصفحات ومع الوقت تفقد الكثير من طعمها، حتى التعبير عن السعادة أو الافتقاد يجرى افتراضيا، وبالتعبير الصامت عبر الصفحات المتعددة. والمفارقة أنه حتى هؤلاء الذين يشكون من العزلة والتهانى البلاستيكية الافتراضية يفعلون ذلك على أدوات التواصل وليس مباشرة.
قد يرد قائلا بأن كورونا وما خلفته من تأثيرات ومخاوف ساهمت بنصيب فى هذه الحالة، من العزلة، وبالطبع فإن فيروس كورونا وتداعياته تركوا تأثيرات كبيرة ربما تتفاعل أكثر خلال المقبل من الأيام، وهناك دراسات وافتراضات أجراها باحثون فى عالم النفس والاجتماع عن تأثير اجتماعى للفيروس، لكن الواقع أن العزلة نفسها سابقة للفيروس، وربما يكون ساهم فى إظهاره، حيث تضاعف الإقبال على التطبيقات الافتراضية والدراما وأدوات العالم الافتراضى. بما يعنى أن الفيروس كاشف وليس منشئا لهذه الظاهرة.
وحتى أدوات وتطبيقات التواصل نفسها ليست عالما متصلا كما يتصور البعض، لكنها تحمل داخلها تجمعات صغيرة، أو « جيتوهات» كل منها تجمعه هواية أو آراء أو اهتمامات مشتركة. وقليلون هم من يمكنهم التواصل مع مختلفين معهم فى الآراء أو الاهتمامات، ومن الصعب قيام حوار أو مناقشة تنتهى نهاية سعيدة حول أى موضوع خلافى أو قضية سياسية أو تاريخية. لهذا يفضل كل فريق أن يتقابل ويتفاهم مع من يوافقوه.
وداخل كل « جيتو» افتراضى، هناك مجموعات ترتبط بأفكار واحدة عن الفن أو السياسة أو الاتفاق التاريخى، الدينى، الاجتماعى.
يقرأون لبعضهم ويتداولون مع أنفسهم، وغالبا ما يطرحون قضايا وأفكارا يعتقدون أنها تسيطر على العالم خارجهم، وكثيرا ما نقرأ لأحدهم «العالم كله يناقش كذا.. أو الدنيا مقلوبة على كذا»، بينما يكون الأمر كله قضية فرعية تلتقى عليها آراء الجيتو فقط، ويعتقدون أنها عالمية.
نفس الأمر فيما يتعلق بالقضايا التاريخية والسياسية، ونظرة واحدة على النقاش السنوى حول ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر، تكشف «الطرق المسدودة» فى الجدال العام، كل طرف يدخل ويخرج برأى واحد لا يغيره وليس على استعداد للاستماع إلى آراء مختلفة، وهذا مجرد مثال يمكن تطبيقه على كل الأشخاص والأحداث السياسية والتاريخية السادات مبارك محمد على، وبالرغم من أن السياسة بطبيعتها نسبية، فإن النقاش ينطلق من المطلق ويصل بسرعة لطريق مسدود.
دعك من أن أغلب المناقشات تدور حول الماضى البعيد أو السحيق، يدفع الجميع افتراضيا إلى الماضى بقوانين الحاضر، أو الحاضر بقواعد الماضى.
وكل هذا لا ينفصل عن النقطة التى طرحناها فى البداية، هى أن العالم الافتراضى ليس متصلا كما يبدو فى الظاهر، لكنه مجرد «جيتوهات» لا تلتقى ولا تتحاور، وتبقى معزولة فى زمن التواصل.