استفادت مصر من الحملة الفرنسية في كثير من الأمور خلال تواجد الفرنسيين في مصر، ورغم ارتكاب الفرنسيين لمجازر وأفعال دموية كثيرة أثناء وجودهم فى القاهرة، إلا أن حملتهم العسكرية كانت لها العديد من الجوانب العلمية والثقافية على البلاد، لعل منها مثلا المجمع العلمى فى القاهرة.
وتمر اليوم الذكرى الـ222 على إصدار نابليون بونابرت قرارًا بإنشاء المجمع العلمى فى مصر، وذلك أثناء قيادته للحملة فى القاهرة، وقبل عام واحد من مغادرته البلاد عائدا إلى بلاده ليقودها بعد الثورة الفرنسية، وفى التقرير التالى نوضح أبرز النتائج الإيجابية التى تركتها الحملة الفرنسية فى مصر، بالتأكيد لم تكن تلك الإنجازات بقصد خدمة البلاد، على قدر ما هى تستهدف خدمة أهداف الحملة فى مصر، ورغم أنها أساسا بنيت لصالح أغراض فرنسية بحتة إلا أنها خدمت مصر وجعلتها تستطيع أن تدخل فى عالم النظم الحديثة:
سجلات المواليد والوفيات
فعلى الصعيد الاجتماعى تعرف المصريون على الحضارة الغربية بمزاياها ومساوئها، كما تعرفوا على بعض الأنظمة الإدارية عن الفرنسيين ومن بينها سجلات المواليد والوفيات.
سجل الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" تأسيس أول نظام لتسجيل المواليد في مصر على أيدي سلطات الحملة الفرنسية. ففي الثاني من يناير 1801، أرسل الجنرال "مينو" خطاباً إلى مشايخ الديوان المصري، يعلن فيه تنظيم دفتر لتسجيل المواليد، ويقدم في خاتمته الشكر للمشايخ على تهنئتهم له بمولوده من زوجته المصرية، "سليمان مراد جاك مينو"، والذي ربما كان أول من سُجّل في دفتر المواليد المصري.
المحاكم والنظام القضائى
كذلك نظام المحاكمات الفرنسي، وبرز ذلك في قضية سليمان الحلبي، وينسب الفرنسيون لنفسهم أنهم أول من أدخلوا النظام القضائى فى مصر، وأصحاب أول محاكمة عصرية فى التاريخ المصرى الحديث، وهى محاكمة سليمان الحلبى التى حكمت بإعدامه.
وبحسب كتاب "نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامى" للكاتب عبد العظيم الديب، فإن الحملة الفرنسية كما كانت أول ما أدخلت المطابع ورسمت الخرائط وأصدرت أول صحيفة، قامت أيضا بتنظيم المواخير والحانات، وفى عهد رأوا الناس أول محاكمة مصرية، فرأوا فى محاكمة سليمان الحلبى "قاتل كليبر" أول تحقيق بطريقة عصرية، ووقوف المتهم أمام المحكمة التى تتكون من عدة مستشارين ومجموعة من المحلفين.
كتاب وصف مصر
وهناك جوانب علمية كثيرة استفادت مصر منها خلال الحملة أولها كان "كتاب وصف مصر" حيث قام العلماء الفرنسيين بتأليف هذا الكتاب الذي يصف مصر منذ قيام الحضارة الفرعونية إلى خروج الحملة من مصر، فقد رافقت الحملة الفرنسية مجموعة من العلماء في شتى مجالات العلم في وقتها، أكثر من 150 عالماً، وأكثر من 2000 متخصص من خيرة الفنانين والرسامين والتقنيين الذين رافقوا القائد الفرنسي نابليون بونابرت في مصر خلال أعوام 1798/ 1801 من كيميائيين وأطباء وفلكيين، وكانت نتيجة مجهودهم "كتاب وصف مصر" وهو عبارة عن المجموعة الموثقة تضم 11 مجلداً من الصور واللوحات مملوكة لمكتبة الإسكندرية، و 9 مجلدات من النصوص من بينها مجلد خاص بالأطالس والخرائط أسهم بها المجمع العلمي المصري، وقام هؤلاء العلماء بعمل مجهود غطى جميع أرض مصر من شمالها إلى جنوبها خلال سنوات تواجدهم، وقاموا برصد وتسجيل كل أمور الحياة في مصر آنذاك، وكل ما يتعلق بالحضارة المصرية القديمة ليخرجوا إلى العالم 20 جزءاً لكتاب وصف مصر.
المجمع العلمى
أمر نابليون بونابرت بإنشاء المجمع العلمى، وكان الهدف من إنشاء المجمع هو العمل على تقدم العلوم فى مصر، وبحث ودراسة الأحداث التاريخية ومرافقها الصناعية، وعواملها الطبيعية، وكيفية استغلالها من الجانب الفرنسى، تم تقسيمه إلى أربعة أقسام، هى الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والاقتصاد، والآداب والفنون، واختار نابليون لعلمائه بعد أن استقر فى القاهرة بيت السنارى ومجموعة من البيوت المجاورة ليكون مكانا للمجمع العلمى، ثم تم نقله بعد شارع قصر العينى.
الحياة النيابية وأول برلمان
وينسب الكثير من المؤرخين والباحثين إلى ديوان القاهرة الذى أنشئ كبديل للديوان العام من قبل قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت، بداية الحياة النيابية والتشريعية فى البلاد.
وبحسب كتاب "الثورة وبريق الحرية" للكاتب محمد السنى، فإن نابليون أنشأ ديوان القاهرة، وهو ديوان استشاريا من تسعة من كبار المشايخ والعلماء ويرأسه الشيخ عبدالله الشرقاوى، لحكم مدينة القارة، وتعيين رؤساء الموظفين، وكان الغرض من مجلس القاهرة هو تفعيل الحياة المدنية بالمفهوم الحديث ومشاركتها جنبا إلى جنب مع الإدارة والسلطات الحاكمة فى البلاد، وهو أحد الأفكار الهامة التى صاحبت الحملة الفرنسية من ضرورة تفعيل دور المجتمع والمشاركة المجتمعية فى الإدارة والحكم، وهو قائم على أفكار المفكر وعالم الاجتماع "جان جاك روسو" ونظريته المعروفة بـ"العقد الاجتماعى"، والتى تقوم على أن العلاقة بين الإدارة والشعب تقوم على وجود عقد افتراضى بين الشعب من ناحية والحاكم والإدارة من ناحية أخرى.
أول خريطة تفاصيلية
أعد علماء الحملة في فترة وجودهم في مصر أول خريطة تفصيلية لمدينة القاهرة وضاحيتي بولاق ومصر القديمة، أوضحوا عليها معظم المباني والشوارع والحارات والعطف والبرك والبساتين التي كانت موجودة في هذا الوقت، كما أوضحوا الشوارع التي فتحوها أو بدأوا في فتحها بمدينة القاهرة أثناء إقامتهم بمصر، وأهمية هذه الخريطة في هذه الدراسة في أنها توضح مدى التغير الذي طرأ على المدينة في فترة الدراسة خلال القرن 19م. تتكون هذه الخريطة من ثلاثة أجزاء، الأول خاص بمدينة القاهرة والثاني خاص ببولاق والثالث لمصر القديمة والجيزة.
إلغاء السخرة
ألغت الحملة نظام السخرة الذى كان معمولا به، إذ كان يعنى العمل الإجبارى دون مقابل فى أراضى البكوات أو مشروعات الدولة المضنية كحفر الترع والقنوات وإقامة الجسور وغير ذلك من هذه الأعمال ومن ثم جعلت الحملة العمل المضنى فى مقابل أجر مستحق حتى لا يضطر العمال للهرب بالإضافة إلى منحهم أوقات للراحة وتعويضات عند حصول مكروه.
إنشاء المستشفيات العامة
انشأ الفرنسيين المستشفيات للعناية بالصحة العامة كما اجبروا المصريين على عدم نشر ملابسهم داخل المنازل بل يجب نشرها على أسطح المنازل لامتصاص أشعة الشمس الميكروبات منها كما أجبروهم على رش المنازل والاهتمام بنظافتها وعرض الأمتعة على اشعة الشمس .
قناة السويس
من الجوانب العلمية التي اكتسبتها مصر خلال الحملة فكرة "حفر قناة السويس" فقد اقترح علماء الحملة توصيل البحرين الأحمر والمتوسط فيما يعرف الآن باسم "قناة السويس"، ولكن الفكرة لم تنفذ وذلك بسبب اعتقاد خاطئ بأن البحر الأحمر أعلى في المستوى من البحر المتوسط، حتى جاء المهندس الفرنسى ديلسيبس بمشروعه إلى الوالى سعيد باشا، وتم بدء حفر القناة بعد حوالى نصف قرن من خروج الحملة من مصر.
فك رموز الحضارة الفرعونية
اكتشف حجر رشيد من جانب أحد جنود الحملة الفرنسية، وكان ذلك سببا فى التوصل إلى أسرار اللغة المصرية القديمة من خلال فك رموز حجر رشيد حيث استطاع شامبليون في تحديد اللغة إلى (الهيروغليفية – الهيراطيقية - الديموطيقية)، كما قامت الحملة برسم أول خريطة دقيقة للقطر المصري.
وكان المكتشفون للحجر قد اقترحوا أن الحجر يتضمن نصًّا واحدًا بخطوط ثلاثة مختلفة، واتضح فيما بعد أن اقتراحهم كان صائباً. وبعد نقل الحجر إلى القاهرة أمر "نابليون بونابرت" قائد الحملة الفرنسية بإعداد عدة نسخ منه لتكون في متناول المهتمين بالحضارة المصرية في أوروبا بوجه عام وفي فرنسا بوجه خاص. وكان الحجر قد وصل إلى بريطانيا عام 1802 بمقتضى اتفاقية العريش التي أُبرمت بين إنجلترا بقيادة القائد "نيلسون" وفرنسا بقيادة القائد "مينو"، تسلمت إنجلترا بمقتضاها الحجر وآثارًا أخرى وبدأ الباحثون بترجمة النص اليوناني، وأبدى الباحثان "سلفستر دي ساسي" و"أكربلاد" اهتماماً خاصًّا بالخط الديموطيقي.