اجتمعت أمس مع صديقة ستضطر لأن تترك بيتها وبيت أسرتها بسبب مشروع قومى يتم تنفيذه حاليا.
بعد أن هدأ غضبها، طلبت منها أن تضع نفسها مكان القائمين على شؤون الدولة وليكن مكان رئيس الجمهورية.
وبعد حوار طويل استنتجنا أن العمل فى السياسة بضمير ولوجه الله والوطن والحياة الكريمة مثل من يتطوع كى يسلك البلاعة العمومية بتاعة الشارع.
شخص هيجد الدنيا بتغرق والبيوت غير قابلة للسكنى والدنيا بتنهار، فيعلن أنه هيتطوع علشان يسلك البلاعة، وسيضطر لأن يقطع المياه عن بعض البيوت لبعض الوقت، وأول حاجة هتحصل سيلعنه هؤلاء المتضررون.
هينزل إلى البلاعة علشان يسلكها، وقد ينجح وقد لا ينجح، وفى كل الأحوال الناس هتقول له «ريحتك وحشة»، هيقول لهم: «ما أنا ريحتى وحشة لأننى ضحيت من أجلكم»، سيقولون له: «ما إنت ساذج، إردب ما هو لك، ليه تحضر كيله، تعفر فى ذقنك وتتعب فى شيله».
معضلة السياسة، وبالذات فى المجتمعات المتخلفة، أنها دائما أبدا مفاضلة بين أنواع المفاسد وأحجامها، وبين أنواع الشرور ونتائجها.
قديما قال عمر بن الخطاب: «الفقه أن تعرف شر الخيرين وخير الشرين».
والسياسة كذلك، هى مفاضلة بين أكثر الشرور خيرا، ولكنك مرتكب للشر من وجهة نظر الناس أبدا.
الفيلسوفة البريطانية Philippa Ruth Foot وضعت لنا معضلة كبيرة فى عام 1967، حين طلبت منا أن نتخيل شيئاً من هذا القبيل: ماذا لو أنت سائق سيارة ضخمة واكتشفت فجأة أنها بلا فرامل، وبالنظر أمامك اكتشفت أن خمسة أشخاص سيموتون قطعاً بسبب هذه السيارة، وفجأة وجدت مخرجاً وهو أن هناك امرأة تقود سيارة فى الاتجاه المضاد ويبدو أنها وحدها، وبالتالى لو اتجهت بالسيارة فى مواجهتها فستقتلها هى فقط، الوقت يجرى وأمامك 20 ثانية لتتخذ قرارك بأن تضحى بالسيدة منفردة أو بالخمسة أشخاص.
ما يحدث فى هذه الحالة، يحدث فى السياسة دائما.
صانع القرار السياسى ليست أمامه حلول سهلة عادة، هو يفاضل بين أخف الكوارث والمشاكل، ولو اختار أن يقتل السيدة مكان الخمسة، فسيلعنه كثيرون لأنه قتل امرأة، ولن يحمدوه لأنه ساهم فى نجاة خمسة.
ويقول فقهاء السياسة الشرعية: ««الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما». وقد يحدث هذا، ولكن الناس ستلعن السياسى أيا ما فعل.
قال ابن حزم الأندلسى: «من تصدر لخدمه العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لامحاله مشتوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار».
مثلا، قرار بإخلاء منطقة من سكانها لأن وجودهم فى هذا المكان يهدد أمن الوطن بأكمله سيكون هناك من ينظر إليه على أنه مفسدة أعظم من أى مفسدة، ولو تبنى هذه النظرة إعلاميون أو مغردون مثل الذين عندنا، فسيحولونه إلى شر مستطير، لاسيما مع شعب «ببغائى» النزعة مثل الشعب المصرى الشقيق.
يقول أحمد شوقى فى مسرحية مصرع كليوباترا عن الشعب الساذج الذى ينطلى الزور عليه: «اسمع الشعب (ديون) كيف يوحون إليه.. ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه، أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه، ياله من ببغاء عقله فى أذنيه!!»
السلطة شهوة.. قال إبراهيم ابن أدهم: «وآخر ما يخرج من قلب العارف بالله حب الرئاسة» إلا من جعلها لله والوطن والحياة الكريمة.
هذا ما أمكن إيراده وتيسر إعداده وقدر الله لى قوله.