والذكرى إن نفعت المؤمنين بها تحصنهم عند المفترق. الذكرى كر وفر؛ كوتر الكمنجة ذهاباً وإياباً على جسد آلة تتجلى في أبجديات الموسيقى ولا تحذر الوجع ولا استدراج القلوب إلى فخه، هنا في طرقات المدينة كنت أمشي وأنا أحاول قدر أحلامي وهواجسي أن أنأى عن زماني وأتوه في تضاريس المكان على بعد خطوات من ميدان التحرير، خطوات تكفي للقفز في طريق واحد لم يكن له بديل وإن تشابهت الطرق. كان ذلك في بداية التسعينيات وبداية الحكايات الهشة وبداية التحاقي بالجامعة وتورطي في المتاهة.
حين كنت أخطو خطوتي الأولى في عالم الكتابة بأمل ملتهب وقدم واثبة وأخرى مرتجفة، لا الرحلة كانت قد بدأت ولا الطريق انتهى؛ كنت أمشي وحدي وكل شيء من حولي واقعي: الناس والشارع وأنا لا أملك غير إيقاعي وصوت قلبي يدق لنسمة هواء شاردة بنفس حماس الوصول إلى محطة الأتوبيس القديمة في قلب ميدان التحرير، بالطبع لم يستطع خيالي المشاكس في تلك اللحظة أن يدرك أن أكبر ميادين القاهرة الذي سُمي في بداية إنشائه باسم ميدان الاسماعيلية، سيكون ميدان الثورة فيما بعد، كان فقط بالنسبة لي هو الميدان الذي نأت إليه من كل صوب ثم تتفرق بنا السبل، كان هو الفضاء الذي يطل عليه في هذه اللحظة الصباحية المبكرة نجيب محفوظ خلف الواجهة الزجاجية العليا لمقهى علي بابا، يرتشف من فنجان قهوته السادة ويتأمل "خلق الله" وأنا منهم ونحن نسير ونسعى كالنحل في مناكبها وفق معادلة تحافظ على مقاديرها دون زيادة أو نقصان في مساحة يتشابك فيها الخيال بالواقع.
من خلف زجاج مقهى "علي بابا" الذي أسسه الحاج صابر علّام عام 1968، كان نجيب محفوظ يحملق في المشاة يعبرون الميدان بلا رقيب أو متطفل "يعكنن" عليه مزاجه ويعكر صفوه، كنت أنا قد وصلت إلى القاهرة، كعادتي حينذاك قبل الثامنة صباحاً؛ وهي مهارة قديمة حسدني عليها الكثير من أصدقائي، وحين هممت ككل أيامي أن أدلف إلى شارع قصر العيني لأتوجه إلى مجلة روزا اليوسف؛ بوابتي الأولى إلى بلاط صاحبة الجلالة، لم أتريث لحظة ولم أقاوم رغبتي المفاجئة في تغيير المسار لأمر على مقهى علي بابا في هذا الصباح التسعيني الحيادي، السابح كفكرة مجهولة في أفق غير معلوم، لم أدرك السبب وراء تغيير وجهتي إلى مقهى علي بابا ولم يعنيني أساساً أن أبحث عن سبب أو أشغل بالي هل الأمر له علاقة بأديب نوبل أم لا؟، صحيح أنه كان أول الأسماء الكبيرة و"واسطتي" الرئيسية للإطلالة على عالم القراءة الذي فتحت نافذته أيضاً على يحيي حقي وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وقبلهم وقبل محفوظ ذاته كان الأدب الروسي المترجم الذي تعرفت عليه في مكتبة والدي التي احتوت على العديد من كتب مرحلة الستينيات العامرة، وصحيح أن وجداني السينمائي محفور بأفلام كتبها أو أُخذت عن رواياته (الثلاثية، بداية ونهاية، زقاق المدق، اللص والكلاب.. وحتى الحرافيش وغيرها)، كانت بالنسبة لي مفاتيحاً للتوغل في النفس البشرية والغوص في العلاقات الإنسانية بكل هذا العمق في الرؤية لحيوات مختلفة، تائهة في قاع المجتمع ومشحونة بعوالم خفية في المدينة المفتوحة على بؤس ناسها وشقائهم، إضافة إلى تنوع رصيده بين الروايات التاريخية والواقعية والاجتماعية والنفسية، ما جعله شريكاً في الحراك الإبداعي والفني في مرحلة الغليان القومي، إذ في الفترة ذاتها تبلورت تجربة عبد الصبور وعبد المعطي حجازي ولويس عوض وغالي شكري ورجاء النقاش، كما ظهرت الأعمال الفنية المهمة لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.
لكن كل ذلك لم يشكل دافعاً لي حين باشرت نهاري في ذلك الصباح بالتوجه إلى مقهى علي بابا، فلم أخطط لمقابلة أديب نوبل على طريقة المطاردات الصحفية التي تقطع عليه سيره المحبب في شوارع القاهرة بمفرده أو جلسته الصباحية المفضلة، ولم أكن يوماً من المستلبين نحو النجوم، لم يشدني في نجيب محفوظ هذا الجانب الذي يجعلني أسير عمياء في معراجه، ومع رعونة عمري الصغير وقتها لم أره متوافقاً مع مزاجي الريفي وأنا القروية البسيطة التي تحاول أن تدق أبواب المدينة، أو مع مزاجي الثوري المتمرد وهو الذي يتعامل مع الحياة بطريقة الموظف الحاد في تنظيم وقته بالدقيقة والثانية، وربما اعتبرت يوسف إدريس في اللحظة التي أدخل فيها إلى المقهى هو الأقرب إليّ، وكان صدى معارك نوبل لا يزال يتردد في الأرجاء بالرغم من مرور ما يقرب من عامين( المدهش أنه بعد كل هذه السنوات أكتشف أنه بالمقارنة بين ما كتبته عن الاثنين أو عن أفلام مأخوذة عن رواياتهما فإن كفة نجيب محفوظ هي الراجحة، خصوصاً أن أول كتاب لي كان عن الفتوات في السينما ولمحفوظ النصيب الأكبر فيها).
دخلت إلى المقهى، جلست على طاولة في الطابق الأول ثم طلبت فنجاناً من الشاي قبل أن أقرر مرة أخرى أن أغير مكاني وأصعد إلى الطابق الثاني، فيما حدث تواطؤاً ما بيني وبين جرسون المقهى، إذ غض البصر وانشغل بزبائن آخرين ولم يمنعني كما فعل مع غيري من الصعود لأن "الأستاذ" في خلوته يستحوذ بحضوره على المكان، كأن يداً الهية دبرت لي صدفة لقائي الوحيد به، ارتباكي جعلني لم ألحظ سواه طوال خمس دقائق مضيتها أتابعه؛ هادئاً يرتدي بذلته "السفاري" ويطالع صحف الصباح، يدخن سيجارته على مهل فيما أنظر إليه خلسة ويكاد قلبي يتوقف من فرط حرصي ألا أصدر صوتاً، وعقلي فجأة انفجرت فيه عشرات الأسئلة عن ذلك الرجل المرئي أمامي والذي لم يلتفت نحوي ليراني، بدأت أفكر في ردة فعله حين ينتبه إلى وجودي وأتساءل: هل يشعر بي فعلاً، لكنه يتجاهلني؟ ثم أجدني أهمس: مش مهم. وأروض نفسي بأن الصعب صار ممكناً وأنني الآن أمام نجيب محفوظ "الإشكالية" لجميع الكتاب، إنه الأفق الذي تفتحت كل الأعين على مداه والذي يسعون إلى تجاوزه بـ"حساسية جديدة" أو "كتابة جديدة" أو عابرة للنوع، لا يهم؛ فالمهم هو فعل الاجتياز ذاته كمنعطف أساسي يفصل المراحل والمحطات على طريق الكتابة.
أختلس نظرة أخرى؛ لكني أرى صورة كمال عبدالجواد كما جسدها نور الشريف في الثلاثية على شاشة السينما وصراعه الوجودي في حياة عابثة، وبمجرد أن وضع الصحيفة على طاولته، ظل على هدوئه، لم تظهر على ملامحه أن وجودي فاجئه وإن بدا أكثر تحفظاً مما توقعت، ما جعلني أكثر ارتباكاً وأنا أقترب منه وأكاد أفقد النطق حتى صدرت عني كلمة "صباح الخير يا أستاذ" مبحوحة.. متقطعة كأنها جرحت أحبالي الصوتية، فجاءني صوته واثقاً كما لو كان مرشدي للخروج من حفرة وقعت فيها: "صباح الخير يا بنتي"، فإذا بي أتلقف بساطة ما في صوته، فأسأله بعد ما انتقلت من التهتهة إلى اللهاث: "فيه كتب كتيرة لحضرتك مش عارفة أجيبها منين.. ياريت حضرتك تدلني؟" السؤال العبثي الذي لم أنج منه ولم أنطق بعده حرفاً، بينما ابتسم نجيب محفوظ وقال: اتصلي بالأهرام واسألي عن واحد اسمه فتحي العشري هو مدير مكتبي واطلبي منه الكتب اللي ناقصاك".
انصرفت مسرعة من المقهى دون أن ألتقط أنفاسي بعد هذا اللقاء، لكني لم أنس أن أتصل بالأهرام واسأل عن الناقد السينمائي فتحي العشري وأخبرته بما أردته من روايات ودراسات نقدية، ثم ذهبت في اليوم التالي إلى جريدة الأهرام وحصلت عليها ومشيت في ممر طويل أعد خطواتي: واحد، اثنان، ثلاث ... إلى أن اقتربت من المصعد وحين فُتح بابه تسمرت في مكاني حتى أشار لي الرجل المتأنق داخل المصعد، عيناه الزرقاوتين بدت كأنها تمتحن صمتي أو تقيس عمق دهشتي وهو يقول: "أيوة أنا يوسف إدريس.. ادخلي".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة