لا أحد يمكنه أن يحتفظ بهدوئه بعد مشاهدة فيديوهات انفجار مرفأ بيروت. لكن مع تكرار هذه المشاهد تتكون حالة من الاعتياد ربما تجعل الحدث أقل سخونة وبرودة مما يفترض، نحن أمام حدث يحمل بداخله الكثير من ملامح أزمة لبنان، التعتيم السياسى والتقاطع والتداخل، والمحاصصة التى تجعل كل طرف يحمل حسابات سياسية معقدة تمنع فى النهاية من قول الحقيقة كاملة.
وتكفى نظرة على عناوين الصحف فى لبنان لتكشف عن حجم التناقضات كل صحيفة تختلف عن الأخرى، لأنها تعبر عن موقف الممول والتيار والاتجاه، هى نفسها المسافة بين «تحالف 14 آذار» وتحالف «8آذار» وكلاهما تشكل فى أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى، وخروج الجيش السورى من لبنان، حيث يضم تحالف 8 آذار الأحزاب التى لها علاقة وثيقة مع سوريا، والتى تظاهرت فى 8 مارس لشكر سوريا على ما قدمته للمقاومة اللبنانية وأهمها حزب الله، وحركة أمل، الحزب السورى القومى الاجتماعى تيار المردة إلى جانب مجموعات أخرى وانضم إليه التيار الوطنى الحر.
أما تحالف 14 آذار فيضم الأحزاب السياسية الرافضة للوجود السورى فى لبنان من حزب الكتائب اللبنانى وتيار المستقبل، والقوات اللبنانية، والكتلة الوطنية اللبنانية، وثورة الأرز، وحركة التجدد الديموقراطى، وحركة اليسار الديمقراطى، والحزب التقدمى الاشتراكى، وأحزاب أخرى من التيارات الليبرالية واليسارية.
ظلت السياسة فى هذا السياق لسنوات، وبقيت تلقى بظلالها على السعى السياسى، لكن اللبنانيون أو الشعب البعيد عن التجاذبات السياسية والطائفية أعلن تمرده ورفضه للحكومة والطبقة السياسية التى تستفيد وحدها من هذا التجاذب، ومنذ 17 أكتوبر 2019 نظم اللبنانيون تظاهرات شعبية غير مسبوقة تضغط باتجاه إسقاط المنظومة السياسية التى حكمت البلد منذ انتهاء الحرب الأهلية فى بداية تسعينيات القرن الماضى.
هذه التظاهرات أعلنت عابرة للطوائف والمناطق ومتفاوتة فى أعمار المشاركين فيها والطبقات الاجتماعية، وكلها تُجمع من حيث المزاج المنتشر فى التظاهرات على إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة وتجاوز نظام المحاصصة الطائفية وتقسيم المناصب والمنافع المعمول به منذ استقلال لبنان قبل منتصف الأربعينات.
التظاهرات ألقت أحجارا فى برك السياسة، وإن كانت لم تصل إلى إفراز يعبر عنها. وترفع شعار «كلن يعنى كلن»، بمعنى أنهم ضد الطبقة السياسية التى تتقاسم الثروة والسلطة والتبعية، وهو ما يحرم الشعب اللبنانى من حقوقه، ولم يعد التأييد للمقاومة كما كان، ولا الثقة فى التيارات السياسية المتهمة بالفساد واقتسام المغانم على حساب الشعب. الأغلبية التى تظاهرت تطلب وطنا للجميع من دون تقسيم، لأن الطائفية ترتب اقتسام المغانم، للطبقة وفسادها، وانحيازها. لا أحد يعمل من أجل لبنان.
ولهذا فإن «انفجار النيترات» فى بيروت مع أنه أضخم تفجير خلال عقود، فإن الأخطر هو الغموض الذى يحيط بالانفجار وتوابعه، والتفاصيل التى تحيط بالتحقيقات وتجعل هناك مسافة بين الحقيقة المجردة وبين شهادات مغلفة بالمواقف والصراعات السياسية.
الشعب اللبنانى بالرغم من كل المآسى والصراعات والحروب بالوكالة والمباشرة، هم فقط الضامن لبقاء لبنان، فقد اتفق اللبنانيون من بعد تجربة الحرب الأهلية أنهم لا يريدون تكرار ما جرى، ولا أن يكونوا أداة لأى طرف. وطوال شهور ظلوا يرفعون رايات مختلفة بأنهم لا يريدون بقاء صيغة طائفية هشة، يرفضون اللعبة السياسية المكلفة والتى لا تحمى لبنان وتجعله طوال الوقت على شفا انفجار.
انفجار مرفأ بيروت، كاشف عن تحالف المصالح مع الإهمال والتواطؤ، وحتى فكرة الشحنة المصادرة من 7 سنوات، قصة ناقصة تحيطها خيوط الغموض والتداخل، وربما تغطيها توازنات السياسة. اللبنانيون هم من يدفع الثمن دائما، ثمن الصراعات والمغامرات والأنانية والفساد، لكن توابع التفجير ربما تطيح ببعض من كتل السياسة والطائفية والتسلط بالسلاح أو الفساد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة