"قصتنا من أول الزمان.. يتجرح لبنان يتهدم لبنان".. هكذا كانت تشدو السيدة فيروز، بصوتها الهادر، في حضور الآلاف من محبيها بمسرح الأوليمبيا في فرنسا، عام 1979، في أنشودة بعنوان "باريس يا زهرة الحرية"، تحمل عبقا فنيا، دائما ما أثرت به "جارة القمر" محبيها في الوطن العربى من المحيط إلى الخليج، إلا أنها حملت في طياتها جرحا غائرا في قلب وطن يئن من ألم التشرذم والانقسام، في ظل تزامنها مع الحرب الأهلية اللبنانية، والتي استمرت لسنوات طويلة أكلت فيها الأخضر واليابس في بلاد الأرز، بينما استمرت تداعياتها لعقود، مازالت لم تنته بعد.
صوت فيروز على مسرح الأوليمبيا الشهير، بينما تشدو في أحد مقاطع أغنيتها "بيقولوا مات وما بيموت.. وبيرجع من حجاره يعلى بيوت" ربما كان معبرا عن عمل فنى عبقرى، امتزج فيه اللحن، مع عمق الكلمات، وقد أبدع فيهما الأخوين رحبانى، ليقدم ثلاثتهم خليطا بين حالة الألم التي يعيشها وطن ممزق بين أحزابه في الداخل وقوى دولية تتصارع على السيطرة عليه من الخارج من جانب، والثقة الكبيرة في عودته إلى بهائه من جديد، فهو وطن لا يموت، ويبقى مصدرا لعزة أبنائه، رغم ما يظنه الحاقدين أنه قد ضاع أو سيضيع يوما ما من جانب أخر.
هكذا سطرت العظيمة فيروز قبل أكثر من 4 عقود من الزمان حلما جميلا، مازال يعيشه عشاقها كلما سمعوا صوتها الواثق، ربما يبقى رغم مرور السنوات أملا في غد أفضل، بينما في الوقت نفسه لم يخلو من بعدا دبلوماسيا، يمثل انعكاسا للعلاقة القوية التي تجمع لبنان بفرنسا منذ الحقبة الاستعمارية، أدركه الثلاثى الفني الأهم في تاريخ الوطن العربى، جعلت من بيروت عمقا استراتيجيا لباريس، وأحد أهم مراكز نفوذها الدولى، رغم توارى نجمها بعد صعود الولايات المتحدة، وهيمنتها على النظام الدولى، وهو ما يبدو في الزيارة الطارئة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون لبيروت، وعدم اكتفائه بالمحادثات الرسمية مع المسئولين، وحرصه على التواصل مع الشارع، للتعبير عن تضامنه في النكبة التي حلت بـ"باريس الشرق".
ربما كانت خفوت النجم الفرنسي لعقود طويلة، سببا رئيسيا في ابتعاد باريس عن المشهد اللبناني لعقود طويلة من الزمن، في إطار تراجع الدور الدولى لقوى أوروبا الرئيسية، أو بالأحرى ذوبانه في كيان أكبر من حيث الحجم، متمثلا في الاتحاد الأوروبى، بينما اقتصر دوره على الدوران في فلك واشنطن، مقابل الحصول على المزايا الأمريكية، وعلى رأسها الاحتفاط ببقائه، عبر تقديم الدعم السياسى والاقتصادي له، وهو الأمر الذى تغير بصورة كبيرة، في ظل التخلي الأمريكي عن القارة العجوز، وعودة قوى أوروبا القديمة (بريطانيا وفرنسا) إلى الظهور مجددا عبر السعي نحو استعادة النفوذ في مناطقهم القديمة.
إلا أن ماكرون يبدو أكثر طموحا من أسلافه، فهو يسعى للقيادة، والعودة إلى الحقبة الإمبراطورية، عبر إحياء الوجود الفرنسي، في مناطق نفوذه من جديد، وهو ما يترجم إسراعه بزيارة بيروت، بعد الانفجار المدمر الذى لحق بها، في الوقت الذى حرص فيه على توسيع نطاق الوعود لتتجاوز الحكومة اللبنانية، إلى الشعب اللبناني، والمحتجين الذين احتشدوا، في مشهد أشبه بـ"الشكوى"، أكثر منه تظاهره، من حالة الانهيار التي امتدت إلى كل مناحى الحياة، سواء سياسيا أو اقتصاديا، لتصبح كارثة "الانفجار" المروع بمثابة شهادة فشل أخيرة في احتواء وطن صار ينازع لسنوات، دون جدوى.
صوت فيروز حمل نفس شكوى اللبنانيين، ولكن قبل 41 عاما كاملة، إلى باريس، في أنشودتها الفنية، ذات الأبعاد الدبلوماسية العميقة، في عبقرية يندر أن يجود الزمان بمثلها، دون استجابة حقيقية من قبل "زهرة الحرية" منذ ذلك الحين، إلا أن زيارة ماكرون لبيروت ووعوده للبنانيين تمثل استجابة، وإن كانت متأخرة لـ"صوت لبنان"، والتي لم يتوحد اللبنانيون على شيء في تاريخهم أكثر من توحدهم وراء صوتها كل صباح، والذى بقى بمثابة الأمل الأخير أن "تتزين صور وصيدا وبيروت" يوما ما بعد سنوات من الاتشاح بالسواد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة