ملف البناء والعقارات والإسكان فى مصر، هو الأكثر تعقيدا وتشابكا، وهو نتاج تراكمات تمتد لأكثر من نصف قرن، ثم إن فتح الملف بقدر ما يثير الكثير من الجدل، فهو أيضا يكشف عن خطوط وتقاطعات متعددة، وقد يكون مقدمة لإعادة ترتيب ملف السكن والتوزيع السكانى بشكل يتناسب مع ما يجرى من تطورات على الأرض، وإذا كانت الحكومة اتخذت خطوات لتخفيض قيمة مقابل التصالح فى المخالفات، أو حل أزمة البناء المخالف، فإن إعادة التخطيط السكانى والعقارى سوف تدعم اتجاه الدولة لحل نهائى لأزمات الإسكان. بشكل يقضى على احتمالات عودة العشوائيات أو البناء المخالف.
من واقع الحال تبدو المخالفات العقارية والبناء على الأراضى الزراعية أعراضا للمشكلة، ومن خلال الممارسة تكشفت بالفعل تفاصيل وعناصر مهمة فى قضية البناء والتنظيم، قد تكون بداية لإعادة تنظيم الأوضاع العقارية والسكانية فى مصر بما يتماشى مع حجم المشروعات القومية وحركة البناء والمدن الجديدة وشبكات الطرق.
فقد ظهرت مشكلة البناء المخالف منذ السبعينيات، فى أعقاب حرب أكتوبر والانفتاح والسفر للخارج، وبدء حركة توسع عقارى، ظلت تتم من دون أى تخطيط، وتحولت إلى حركة عشوائية، مع الأخذ فى الاعتبار أن البناء فى الريف بالوجهين البحرى والقبلى تم لغياب بدائل من الإسكان، وفى حين ظهرت المدن الجديدة فى القاهرة فقط، لم تكن هناك حركة عمران مخططة فى الأقاليم، وحتى فى القاهرة منذ التسعينيات بدأت حركة من الانفجار العقارى الفاخر، بينما تقلصت عمليات بناء الإسكان المتوسط، وارتفعت أسعار العقارات خاصة أنه تم منح كبار رجال المال والأعمال مساحات من الأراضى المجانية بالمرافق حولوها إلى عملية اتجار عقارى فاخر وكونوا ثروات ضخمة على حساب الشعب.
وهذه العملية نهت تماما على فرص طبقات مختلفة فى الحصول على مسكن وأدت إلى اتساع العشوائيات والبناء المخالف. والذى تحول هو الآخر إلى تجارة تتيح للطبقة الوسطى مساكن معقولة بمقدمات أو إيجارات مناسبة، مع غياب قدرة هذه الطبقات على دفع أسعار مبالغ فيها. فقد كانت المبانى المخالفة تمثل بديلا مناسبا لملايين المواطنين، الذين يعجزون عن تحصيل مسكن فى المدن الفاخرة والكومباوندات المنتشرة فى أنحاء القاهرة.
ومن هنا، فاتجاه الدولة لمواجهة البناء المخالف، هو مواجهة مع تراكمات نصف قرن، وفى الوقت الحالى ما تزال حركة العقارات تتجه نحو البناء الفاخر، والأسعار المبالغ فيها والتى تتجاوز قدرات كثيرين من الشباب أو غيرهم، وهذه النقطة بالذات يفترض أن تكون فى مركز اهتمام الدولة، من خلال التوسع فى الإسكان الاجتماعى، وأيضا فى الإسكان المتوسط، والذى يعد حتى الآن ضمن المتاجرة العقارية وبالتالى يصعب أن يوفى باحتياجات الأغلبية من الأجيال القائمة.
وطالما تتجه الدولة إلى بناء مدن جديدة فى مناطق مختلفة، يفترض أن تتاح إمكانية الانتقال أو التوزيع السكانى بشكل مناسب، وهذا لا يتأتى من دون وجود نوع من الحوافز تغرى من يريدون الانتقال إلى المجتمعات الجديدة.
ونظن أن الدولة تدرك تماما هذه التفاصيل، ويفترض أن يتم النظر فى أسعار المساكن المقدمة للطبقة الوسطى، والتى تتجاوز قدرات الكثيرين، وتتطلب إعادة نظر فى الأسعار وإمكانيات التقسيط طويل المدى وبفائدة منخفضة، مع ضمان عدم تحول الأمر إلى تجارة.