نسمع كثيرا اسم الخيزران، فى تاريخ العباسيين، ونعرف مكانتها، فهى أم الخليفة الأشهر هارون الرشيد، وقد كان لها دور كبير فى تدبير الأمر وسياسته، كانت جارية سمراء جميلة، استطاعت أن تدوس فى البلاط بقدم قوية ويكون لها شأن عظيم، فهى زوجة خليفة وأم خليفتين، ومع ذلك فهى متهمة بارتكاب جريمة قتل ابنها "موسى الهادى" خليفة المسلمين.
يقول كتاب "هارون الرشيد ولعبة الأمم" لـ أندرى كلو، كانت الخيزران جارية أهداها الخليفة أبو جعفر المنصور إلى ابنه "المهدى" كانت ممشوقة القوام كغصن البان، من أصل يمانى، وقد اشتراها من "مكة" وقال وهو يرسلها إلى ابنه "اصطحبوها إلى ولدى وقولوا له إنها خلقت من أجل أن تنجب الأطفال" ولم يخب ظن المنصور بها، فقد كانت الخيزران امرأة مثقفة تمتاز بالذكاء الحاد الذى مكنها من العيش وسط البلاط إذ استطاعت سريعا أن تجد طريقها إلى قلب الأمير الشاب.
أنجبت الخيزران ثلاثة أولاد: الأول موسى ومن المحتمل أنه ولد عام 764 ميلادية والثانى "هارون" ويكبره موسى بسنتين، أما الثالث "عيسى" فلا يعرف عنه الكثير.
وعلينا معرفة الحال الذى كانت فيه الخيزران، فرغم أنها حظيت بمكانة عند المهدى فإنه تزوج ثلاثة بعدما تولى الخلافة، لكنها عاشت حياتها فى ترقب، وعملت بجد تحسد عليه ليجعل ولاية العهد فى ولديها الهادى ثم الرشيد، ولتصعيدهما أوكل لهما المهدى قيادة الجيوش ضد (دار الحرب) فى الشرق وفى الغرب لتكون بطولاتهما الحربية مما يجبر النقص فى كون أمهما جارية سابقة. كانت المعركة "شرسة" فالخيزران وهى جارية، فى مواجهة شرسة مع أميرتين من البيت العباسى، إحداهما بنت السفاح وقد أنجبت للمهدى ابنا اسمه (عبد الله)، كان أمير الحج فى حضور أعمام أبيه كبار الأسرة العباسية.
وفى مكرها وبحثها استعانت الخيزران بـ يحيى بن خالد البرمكى، وقد كانت صديقة لزوجته، وحين ولدت زوجة يحيى البرمكى ابنها الفضل بن يحيى عام 148 أرضعت الخيزران الفضل بن يحيى فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة، ثم أرضعت أم الفضل الرشيد أيضا.
ومن الواضح أن الخيزران كانت تميل إلى ابنها "هارون" أكثر من "الهادى" حتى أنه فى عام 162 هجرية انطلقت حملة كبرى لغزو الروم بقيادة هارون هذه الحملة من الواضح أن هدفها الأساسى كان تلميع وتصعيد هارون وكان ممن صحبه يحيى البرمكى.
وبعد موت "المهدى" بويع لابنه "موسى الهادى" فى اليوم الذى مات فيه المهدى، وهو مقيم بجرجان، يحارب أهل طبرستان، وكان حاجب المهدى هو "الفضل بن الربيع" وكان متآمرا خبيثا وخطرا على الوضع الجديد، فكان لا بد من قتله ليحل يحيى البرمكى محله فى الخلافة الجديدة، وفعلا وكما تقول الرواية فقد (كتب الهادى إلى الربيع كتاباً يتهدده بالقتل، وكتب إلى يحيى يشكره، ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد)، وتقول الرواية عنه (وفى هذه السنة أيضاً هلك الربيع).
بوصول الهادى للخلافة وقع فى خطأ شديد فقد فكر أن يعزل أخاه الرشيد ليعهد لابنه الطفل (جعفر)، وكالعادة أمر بتحقير الرشيد، وكالعادة أيضا تقرب القواد للخليفة بتأييده فيما يفعل . ولكن صمد يحيى بن خالد مدافعا عن حق الرشيد .
و كان الهادى شابا قوى البنية رشيق الحركة بحيث كان يقفز على الدابة وعليه درعان ثقيلان، وكان شجاعا مقداما مندفعا جسورا غيورا، لذا كان من المنتظر أن تفقد الخيزران فى خلافته نفوذها الذى تعودت عليه، إلا أن الطبرى فى " تاريخ الرسل والملوك "يذكر أن الهادى سمح باستمرار نفوذ أمه أربعة أشهر، وقال: وكانت الخيزران فى أول خلافة ابنها موسى الهادى تفتئت عليه فى أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله فى الاستبداد بالأمر والنهى، إلا أن الهادى ما لبث أن ثار على ذلك الوضع ولم يحتمله فقال لها، انه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك، إلا أن المواكب التى اعتادت الوقوف بباب الخيزران استمرت فى التوافد عليها، واستمر أصحاب الحاجات يطرقون بابها لتتوسط لهم بنفوذها، فلجأت الخيزران لابنها تكلمه فى قضاء بعض الأمور فرفض، (فقالت له: إنى ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب الهادى وقال: ويل له .. والله لا أقضيها له، فقالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، فقال : إذن والله لا أبالى، فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها وصرخ فيها: والله لئن بلغنى أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك فى كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك؟ أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك؟ ثم إياك وإياك أن فتحت بابك لمسلم أو ذمى" فانصرفت عنه وما تعلم كيف تسير، وقاطعته بعدها فلم تكلمه.
تقول القصص، ومنها ما ذكره الطبرى، إن الهادى أرسل إلى أمه طعاما مسموما مع رسالة منه إليها تقول "انه استطاب ذلك الطعام فأحب أن تأكل أمه منه"، وكانت على وشك أن تأكل، لولا أن جاريتها، حذرتها، وجاءوا بكلب أكل من ذلك الطعام فتساقط لحمه ومات، ميتة بشعة بلا شك، لذلك تحركت الخيزران فدست بعض الجوارى فقتلن ابنها الهادى خنقا وهو نائم، وبعثت الخيزران إلى يحيى بن خالد ليتولى عقد الخلافة للرشيد فى نفس الليلة.
مات "الهادى" شابا فى الثالثة والعشرين من عمره، سنة 170 هجرية، بعد خلافة قصيرة بلغت سنة واحدة وبضعة أشهر.
ولم تعش الخيزران كثيرا بعد "الهادى" فقد ماتت ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة عام 173هـجرية، وخرج الخليفة هارون الرشيد خلف جنازتها وعليه جبة وطيلسان، قد شد به فى وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير، حافياً يمشى فى الطين، وصلى عليها ونزل فى قبرها، ودفنت فى الأعظمية فى بغداد فى المقبرة التى سميت باسمها مقبرة الخيزران.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة