وقبل أن نبدأ بالحديث عن مصادر الوعى المختلفة ودرجات تأثيراتها المختلفة بوعى المواطنين، أود أن أوضح ما هو المقصود بكلمة الوعى :
وهو عندما يكون العقل بحالة من التفكير والتأمل لتكوين مفاهيم محددة لمدركاته الحسية عن طريق منافذ الوعى التى تتمثل عادة بحواسه الخمس.
إذن وبأسلوب أكثر تبسيطاً،
فالوعى هو ما يُكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفاهيم عن الحياة والطبيعة من حوله.
وقد يكون هذا الوعى وعيا زائفا، ذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله،
كما يمكن أن يتم تزييف هذا الوعى بشكل متعمد من خلال خطط مقصودة لأنظمة حكم بعينها تستهدف شعوبها بهذا الوعى المزيف لأغراض معينة.
وربما يكون الوعى غائباً فى بعض الأحيان لدى المواطنين،
فعلى حد وصف الكاتب الكبير توفيق الحكيم بقصته (عودة الوعى) عام 1972 والتى وصف بها الشعب المصرى بفترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر منذ قيام ثورة يوليو وحتى كتابة قصته بفقدان الوعى التام.
إلى موضوعنا بحلقة اليوم عن دور الفنون فى تشكيل الوعى:
فهناك ما يسمى بـ(الوعى الأخلاقى والمعيارى):
وهو الذى يجعلنا نصدر أحكام على الأشياء والسلوكيات فنرفضها أو نقبلها، بناء على قناعات ومعايير أخلاقية أصيلة مؤصلة بالمجتمع الذى نعيش فيه بما يتصف به من عادات وتقاليد وأخلاقيات تشكل ملامحه الأساسية.
وبما أن (الفنون) هى أهم موارد الوعى الغير مباشر
فكما نعلم أن الفنون المختلفة بداية من المسرح والشعر والأدب والموسيقى والغناء والتصوير والعمارة انتهاءً بالسينما كسابع أنواع الفنون وأحدثها إلى جانب الدراما التليفزيونية، ذات تأثيرات بالوجدان والوعى شديدة القوة، وتكمن تلك القوة بعدم مباشرتها.
إذ أن تذوق الفنون عندما تكون متسقة تتسم بالجمال وقوة المعنى ودقة التنفيذ، سواءً كانت مقطوعة موسيقية أو لوحة تشكيلية أو تصميم معمارى أو فيلم سينمائى أو قصيدة شعر أو عرض مسرحى أو مسلسل تليفزيونى، تصبح له قدرة غير عادية على اقتحام مشاعر ووجدان هذا المتلقى والتأثير بها تأثيرات متعددة قد تشكل وعياً مختلفاً أو تعمقه وتوضحه حيال فكرة أو موضوع ما.
لذا فالفنون المختلفة لها قدرة سحرية على ترسيخ وتأصيل قيم أخلاقية وجمالية لتتفوق على غيرها من مصادر تشكيل الوعى الأخرى.
فقد تمكنت الدراما من خلق القدوة المتمثلة بشخص البطل الشعبى فى عدد كبير من الأعمال السينمائية والتليفزيونية، والذى يخترق القلوب ويخلق مريدين يؤمنون به وبما يحمله من قيم وسلوكيات، سواء كانت شخصية هذا البطل تاريخية حقيقية أو محض خيال مؤلف.
لكن ما أود قوله أن هذا المؤلف لم يكن يخلق بأوراقه ملامح الشخصية التى تقود ملحمته التاريخية أو روايته الاجتماعية دون دراسة جيدة وقصد من وراء قصد أن تحمل هذه الشخصية من الرسائل والقيم ما يصيب قلوب وعقول المتلقين ليرسخ بداخلهم قدوة بعينها بما تحمله تلك القدوة من أخلاقيات وتوجهات وسلوكيات لابد وأن تكون حميدة نافعة، فتؤتى أكلها وتحقق أهدافها وتحدث التأثيرات المطلوبة دون توجيه أو مباشرة.
فتؤثر بوعى أجيال بعينها وتحدد لهم معاييراً أخلاقية تحكم المجتمع بشكل عام لتشكل أطراً للوعى المعيارى المبنى على قيم وتقاليد وأعراف يلتزم بها الجميع ومن يخرج عليها فقد خرج عن المقبول والمألوف.
و كما نعلم جميعاً أننا بمصر كنا ننفرد بأرقى وأسمى الفنون بمختلف أنواعها وألوانها ما امتد لعقود طويلة، قبل أن تضربنا بالعشرين سنة الماضية موجات متتالية من الركاكة والأعمال التجارية الفارغة من أية قيمة أو محتوى، والتى تأتى وتذهب لتحدث أثرين لا ثالث لهما.
*إما أن تمر مرور الفراغ الذى يصيب بالملل ثم يذهب أدراج الرياح وهذا فى حالة عدم الضرر.
*وإما أن يحدث تأثيرات سلبية شديدة الخطورة فى تشكيل وعى أجيال بعينها تمت محاصرة مداركها ووعيها بكافة أنواع الرداءة فى الموسيقى والغناء والدراما وحتى العمارة التى تعد أحد أنواع الفنون الجمالية ذات التأثيرات الغير مباشرة بوجدان ووعى الجماهير.
وغالباً هذا ما حدث بغفلة من الزمن تلك التى صاحبت منحنى الهبوط الذى بلغ أدناه بعقدين من الزمان اتسما بالفساد والتدنى بكل شئ وعلى كافة المستويات.
وما أن انتبهت الدولة وقيادتها لمدى خطورة الفنون بمختلف ألوانها على وعى وسلوك الأجيال الحالية التى افتقدت بحق القدوة ومعايير الخلق والجمال، حتى شنت حملة منظمة متوازية لإعادة إحياء الفنون الراقية التى انتبذت ركناً خفياً لتتوارى به، وتعيد تشكيل منظومة الإعلام والدراما باختلاف انواعها لتنقذ ما يمكن إنقاذه وتمحو آثار سنوات من الضلال قد أضلت أجيال تلوثت أسماعهم وأبصارهم وباتت قدوتهم البلطجى الشعبى الذى يحمل من القيم السلبية والموبيقات ما لا يصدقه عقل، هذا الذى قد حل محل البطل الشعبى بسنوات التضليل والضلال.
و بالفعل قد لاحت بالأفق بوادر الإصلاح ومحاولات الارتقاء بالفنون من جديد والتصدى لكل ما هو ردئ ،وعودة الحديث عن العمل التاريخى الملحمى وإنتاج بعض الأعمال الوطنية التى من شأنها عودة الانتماء وشحن المشاعر تجاه الوطن تلك التى كانت قد اختفت ولم يعد لها أيه وجود بقاموس مفردات الأجيال الجديدة.
أخيراً وليس آخراً:
بانتظار عودة تدريجية نتمنى أن تكون سريعة للفنون المصرية الراقية بما ستعود به من قيم أخلاقية وجمالية وإنسانية لتطهر مدارك أجيال قد تلوثت وتغيبت وافتقدت القدوة والحق والخير والجمال وتعيد تشكيل وعيها على أسس سليمة ويتخذ المنحنى طريقاً جديداً آمناً للصعود.
وللحديث بقية عن حروب الوعى وتأثيراتها بالمجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة