لا داعي للهلع، كل شيء يبدو كأن شيئاً كارثياً سيحدث، أمر جلل سيهدد هذه المسارات العادية لهؤلاء البسطاء الذين يسيرون في الشوارع، على أكتافهم جبال من الهموم والتعب في زمن ثقيل، وبالرغم من ذلك أستخدم عبارة لا داعي للهلع، كدرع حماية في مواجهة وفرة الشواهد التي تنبيء بعالم مستقبلي رمادي، مبهم، مشحون بالغموض اللامتناهي، يظهر الأمريكي بيل جيتس مؤسس شركة "مايكروسوفت"، ليحذرنا من كارثة بيئية تنتظر العالم ستكون ذات تأثير أسوأ من وباء كورونا، قائلاً في مدونته الإلكترونية: "مهما كان وباء كورونا مروعًا، قد تكون تغيرات المناخ أسوأ من ذلك"، إنه ذاته بيل جيتس الذي سبق أن حذرنا منذ نحو خمس سنوات من وباء سيجتاح العالم، وها نحن ذا نعيش رهن كوفيد 19، ثم يظهر المخرج البريطاني ريدلي سكوت على شاشة بي بي سي، ليتحدث عن مسلسل الخيال العلمي الذي يعرض له مؤخراً “Raised by Wolves” ، تدور أحداثه في القرن الثاني والعشرين حول الحرب بين الملحدين والحركة الدينية إلى دمار كوكب الأرض، فنرى رجل وامرأة آليان ناجيان من الكارثة يسعيان وهما الآليان إلى إقامة مستوطنة بشرية في كوكب جديد، يتحد فيه البشر والأشخاص الآليون، وسط الصراع بين العلم والدين، الإيمان والإلحاد، المعتقدات والذكاء الاصطناعي المخيف.
نعم، إنه أمر مخيف ومرعب، يواصل فيه صاحب أفلام Alien”، Gladiator، Black Hawk Dawn، The Martian"، استشرافه من خلال الخيال العلمي وجود هذا العالم وفنائه، وحضور الآلات الذكية وتأثيراتها على البشرية في مستقبل يرث ماضيه بجدارة، حسب ما أكده سكوت بتصريحه الصحفي:" لا نتعظ من أحداث الماضي، بل نستمر في ارتكاب الأخطاء نفسها، فنحن نشهد ذلك الآن".
هل وصلنا إلى منعطف خطير؟! يذكرني السؤال بالتحذيرات المتكررة على مدار سنوات لعالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينج من خطورة الذكاء الاصطناعي على الجنس البشري، وإحلال الإنسان الآلي محل البشر في سنوات قليلة، قائلاً:" يُحتمل أن نصبح نحن البشر عاجزين عن إدارة كوكب الأرض"، بينما مايكروسوفت مثلاً تواصل برامجها الحاسوبية لتحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. سؤالي لا ينتج عن رفض للعلم وابتكاراته على طريقة الممرض في الفيلم المصري "قاهر الزمن" (1987) إخراج كمال الشيخ، الذي أحرق المعمل والبيت والطبيب لأنه لم يحتمل فكرة التطور العلمي واعتبره تدخلاً في شئون الخالق، لكنه يعكس جوانب من إنفعال مفعم بالإرهاق والأحلام المبتورة، خصوصاً وأنا أنتمي لجيل وقف على "بلاطة" المنتصف في حياة غير عادلة، جيل شاهد في طفولته وصباه وشبابه أفلام الخيال العلمي الأمريكية وأفلام الروبوت وحروب الأوبئة والفضاء وتماهى إنسانياً مع “E. T.” (1982) إخراج ستيفن سبيلبرج، وإذا بالخيال يخرج من الشاشة إلى الواقع، وما كان يشاهده سابقاً من مسافة كمتفرج؛ أصبح يعيشه حالياً كمعترك لم يختر معركته.
من يوم إلى آخر يزداد حضور الذكاء الاصطناعي في الأفلام السينمائية وأيضاً الدراما التليفزيونية بأشكال وموضوعات متابينة، في تقديري أن هذا الحضور يعتبر إمتداد على خط مستقيم لاجتهادات السينما في التنبوء بهذا التغيير الحتمي للبشرية، أو حتى لتورطها في صناعة هذا التغيير، فالمتابع لبدايات السينما لا يمكن أن يفوته الروبوت صوفيا في الفيلم الألماني الصامت اللافت متروبوليس“Metropolis” (1927) إخراج فريتز لانج، صوفيا تلك المرأة الآلية التي اخترعها طبيب وعالم تتحكم فيه الآلات، على خلفية من الصراع بين الخير والشر، العمال ورأس المال، صوفيا علامة مثيرة ومبهرة واسترشادية كذلك لمستقبل ملغز ومعقد في العام 2026، تتلاعب به تجارب بشرية كانت حينذاك محض خيال، أما الآن فهي واقعنا المحيّر، كما يصعب تجاهل أوديسا الفضاء “A Space Odyssey 2001” (1986) إخراج ستانلي كوبريك، وتأثيراته البصرية الأخاذة بوحشية الخيال الذي يراقص التكنولوجيا ويعصف بوجدان المتفرجين، مروراً بالأفلام التي سبق أن ذكرتها للمخرج ريدلي سكوت، وأفلام أخرى مثل Westworld” “ (1973) إخراج يول براينر، أو سلسلة حرب النجوم “Star Wars” التي ابتكرها جورج لوكاس في العام 1977، أو سلسلة “Star Trek” الصادرة منذ العام 1979 من إخراج روبرت وايز، أو “The Terminator” (1984) إخراج جيمس كاميرون، أو “The Matrix” (1991) إخراج ليلي – لانا وتشاوسكي، أو”A.I. Artificial Intelligence” (2001) إخراج ستيفن سبيلبرج الذي شارك في كتابته ستانلي كوبريك بملمح شديد الإنسانية، عن هذا الروبوت ديفيد الشبيه بالطفل البشري، الذي يخطف القلب بقدرته الكبيرة على الحب، هذه القدرة الممزوجة بوهن المحتاج للحب تحت جناح أسرة بشرية تقوم بتربيته ورعايته، ثم تتوالى الأحداث وصولاً حتى نهاية نرى فيها كوكب الأرض يضربه عصر جليدي جديد، يتم بعده استخراج ديفيد من الثلج وتعديله من قبل كائنات فضائية عالية الذكاء تملك تكنولوجيا خيالية، هذا غير فيلم اليوم الذي تبقى فيه الأرض صامدة “The Day the Earth Stood Still” (2008) إخراج سكوت دريكسون.
قد يقودنا فيلم "هي" (2013) إخراج سبايك جونز إلى بعد إنساني أخر حين نتابع حكاية "ثيودور" الذي يعاني من الوحدة والعزلة وقد وجد في جهاز يعتمد نظام الذكاء الاصطناعي، في تقديم نظام تشغيلي تحت اسم "سامنثا"، يتفاعل معه عاطفياً بصوت أنثوي لدرجة أنه يقع في حبها، ، بينما ما فعله المسلسل البريطاني المرآة السوداء Black Mirror (2013)، يث راح صوب شكل إنساني أخر، إذ قدم امرأة تستخدم تقنية لمحاكاة صديقها المتوفي، اعتماداً على صوته وشخصيته في الهاتف المحمول وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، سرعان ما يتطور الأمر إلى صناعة نسخة آلية، مطابقة تماماً لشكل صديقها، في حين بدت السينما والدراما العربية كما لو كانت فضلت أن تقدم استقالتها من هذه النوعية الدرامية، حتى المسلسل المصري "النهاية" إخراج ياسر سامي الذي قام ببطولته يوسف الشريف في رمضان الماضي، جاء شديد المماطلة والتطويل والإلغاز، بما لم يجعله يحقق التواصل الجماهيري أو الذهني، فلا أسئلة أو أجوبة بقدر ما هو استعراض فقير، لا يوازي التسارع الدراماتيكي العالمي في تطور تجارب الذكاء الاصطناعي وإمكانياته، والذي وصل واقعياً إلى إسناد عدد كبير من المهام البشرية في مرحلة الإنتاج إلى أجهزة الكمبيوتر والروبوتات.
على أية حال، فإن الأعمال المذكورة ليست إحصاءً وإنما أمثلة قد ترشدنا لإجابات عن أسئلة قلقة بداخلنا، أما بالنسبة لي فأنا في الوقت الحالي، أمشي وفق أغنية عبد الحليم حافظ التي كتبها صلاح أبو سالم ولحنها بليغ حمدي: على حسب الريح ما يودي الريح ما يودي، وياه أنا ماشي ولا بيدي.