لسنوات طويلة ، كنا نشكو ونحذر من العشوائيات "القنابل الموقوتة" التي تحيط القاهرة وعواصم المحافظات ، وكان المفكرون وعلماء الاجتماع يحذرون من الكارثة التي تنتظرنا ، من جراء تلك العشوائيات ، فالأمر ليس مجرد مجموعة من العشش أو المباني المتراصة إلى جوار بعضها دون تخطيط ، لا بل الأمر يتعدى المباني إلى علم العمران بما يشتمل عليه من سياسة واقتصاد وأخلاق وتصور للحياة ، يعنى الكارثة التي كنا نخشى وقوعها ، أن يختفى مفهوم " العمران" من حياتنا ، وأن يتحول مجتمعنا إلى كيان عشوائى لا يعرف قانونا أو أخلاقا ولا يحترم أعرافا ولا قيما ، من الفن إلى السياسة مرورا بالدين
وها هي الكارثة قد وقعت وشهدنا آثارها مع نهايات 2010 ، ومعها شهدنا نتيجة تراخى وتكاسل وتردد وخوف القائمين على الأمر في مصر طوال عقود ، عندما انفجر المجتمع وانهارت مؤسسات الدولة مع أول اختبار قوى في 2011 ، ولم يعد بالإمكان إيقاف النزيف المجتمعى ولا ردع غيلان العشوائيات في البناء والتعديات على الأراضى الزراعية وأيضا في السياسة والفن والأخلاق وحتى في معنى الوطن والانتماء الذى لم يكن يمكن التشكيك فيه أو التنازع عليه أو اعتباره وجهة نظر قبل أحداث يناير 2011
الآن ، لأول مرة منذ عقود طويلة تتصدى الدولة المصرية بكل مؤسساتها لطوفان العشوائيات ، بحسم وقوة مع اللصوص والمعتدين على حقوق الوطن ورحابة صدر مع الفقراء ومحدودى الدخل ،وبالطبع لابد أن يغضب أصحاب المصالح واللصوص وناهبو أراضى الدولة ، لأول مرة منذ عقود طويلة تمتلك قيادة الدولة تلك الرؤية الشاملة لمواجهة العشوائيات على ثلاث مسارات ، الأول إطلاق نهضة عمرانية شاملة بدءا من العاصمة الإدارية الجديدة وأربع عشرة مدينة جديدة ذكية تنتمى إلى مدن الجيل الرابع ، حيث يقترن الجمال بالتكنولوجيا والرفاهية ، وشهدنا مجتمعات مثل العلمين الجديدة والمنصورة الجديدة ورشيد الجديدة وشرق بورسعيد وحدائق أكتوبر وأكتوبر الجديدة وامتداد مدينة الشيخ زايد ومدينة ناصر غرب أسيوط وغرب قنا وأسوان الجديدة وتوشكى الجديدة وملوى الجديدة والفشن الجديدة ، وكلها تقدم حلولا عصرية للزيادة السكانية مع جذب الناس للمستقبل بما يعد به من إمكانات واحتمالات
و المسار الثانى الذى تنطلق منه الدولة في رؤيتها للعشوائيات ، هو إزالة الأحزمة الأكثر خطورة من مجتمعات العشوائيات في القاهرة الكبرى والمحافظات ومن بعدها الأحزمة الأكثر فقرا وتكدسا والمحرومة من المرافق ، بما لا يليق بالإنسان المصرى ، وبدلا من الغرفة الواحدة النظيفة المضاءة التي كان يرجوها سكان تلك المناطق العشوائية وغير الآدمية ، تكفلت الدولة بشقة ثلاث غرف كاملة ومفروشة بالكامل ومجهزة بأحدث الأجهزة الكهربائية ، لمحدودى الدخل والفئات غير القادرة ، مقابل إيجار شهرى زهيد للغاية.
أما المسار الثالث ، الذى تتبناه الدولة فيخص القرى الأكثر فقرا في الصعيد والدلتا ، حيث تعمل الأجهزة المعنية بالمشاركة مع صندوق تحيا مصر ومنظمات المجتمع المدنى على إعادة تأهيل تلك القرى وإدخال المرافق لها وتحويلها إلى قرى نموذجية
هل كان أكثر المتفائلين يحلمون بمثل ما يتحقق على مستوى النهضة العمرانية ومواجهة العشوائيات والتعديات على حرم النيل والأراضى الزراعية ؟ هل كان المحذرون من كارثة العشوائيات التي ستنفجر في وجوهنا ، يتوقعون أن تبدأ الدولة المصرية وبهذا الحسم في التصدي لأخطر ملف يواجهها داخليا ؟ الحقيقة أننا اعتدنا على المسكنات والحلول الجزئية ولم نعتد هذا الحسم المرتبط بالإيمان بأننا يمكن أن نكون أفضل وأكثر تحضرا وعصرية ، اعتدنا التجاهل من القيادات والمسئولين ولم نعتد هذا اليقين بضرورة الإصلاح الجذرى واستئصال ورم العشوائيات من جذوره ، وربما هذا ما يفسر البطء في الاستجابة إلى خطط الدولة في إصلاح الأوضاع وعلاج المخالفات ، بل والإمعان في ارتكاب المزيد من المخالفات والتعديات على الأراضى الزراعية ، ظنا منهم أن إرادة الإصلاح والتغيير مؤقتة ولن تستمر أو أن الدولة المصرية لن تمضى إلى النهاية في إنقاذ المجتمع من أمراض العشوائيات المستفحلة ، وهؤلاء ، نقول لهم : مخطئون ، لأنكم لم تتعلموا من الملفات السابقة التي تصدت لها الدولة المصرية خلال السنوات الست الماضية.
وللحديث بقية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة