حالة من الاحتفاء الرسمي والشعبي بـ"بائع الفريسكا "طالب الطب" الذي قدم نموذجاً للرضا والمحبة والسعي وراء الرزق، والإصرار على النجاح بأقل الإمكانيات، بحرصه على العمل للإنفاق على نفسه وأسرته حتى حصل على أكثر من 99 % ليلتحق بكلية الطب.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذا النموذج المشرف، ليس الأول، ولن يكون الأخير، فصعيدنا الطيب، كان شاهداً على مئات من هذه القصص والنماذج المتفردة، من شباب حزموا أمتعتهم وتوجهوا للقاهرة وهم صغاراً يبحثون عن فرص عمل في الفترة الصيفية للحصول على المال ومساعدة أنفسهم وذويهم، تحركوا وسط القاهرة وزحامها وقسوتها، وحفروا بأظافرهم الناعمة في صخور صلبة، يتصبب العرق من أجسادهم، فيزدهم قوة وصلابة وإصراراً على الاجتهاد.
ما أقوله لك هنا، ليس حديثاً يُفترى، بل هي حقائق رصينة، كنت شاهد عيان عليها، في سنوات مضت، عندما كان يحضر شباب قريتي "شطورة" بشمال سوهاج للقاهرة، في الاجازات الصيفية، يعملون لعدة أشهر يجمعون "مصاريف الدراسة" ويعودون مع بداية العام الدراسي، وقد وفروا ملابسهم ورسوم الدراسة، لا يكلفون أولياء أمورهم شيئاً، يتحرك بهم قطار الصعيد في نهاية الصيف متوجهاً للجنوب، وكلهم فخر بما حققوه من مكاسب مادية، رسمت البسمة على وجوهم، وخففت الأعباء عن كاهل أولياء أمورهم.
كنت شاهد عيان، على صديق يعمل في "شركة أمن خاصة" كـ "حراس أمن" وهو يدرس الطب، وثاني يعمل "فواعلي" في مدينة 6 أكتوبر، وهو يدرس الحقوق فأصبح محامياً، وثالث يعمل طوال فترة الصيف لمساعدة نفسه وشقيقاته اللاتي أصبحن طبيبات.
هذه النماذج الكثيرة والعديدة، التي يصعب حصرها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه من رحم المحنة تولد دوماً المنحة، وأن الإرادة والرضا والإصرار على النجاح، عوامل تقود حتماً للنجاح، وأن النساء في الجنوب لن تتوقف عن إنجاب "الرجال"، القادرين على تحمل المسئولية، لا تزعجهم الظروف المادية الصعبة، ولا ترهقهم مشقة العمل، والصبر عليه، ولا يشكون ضيق اليد، وإنما تملأ عيونهم الإرادة ويعلو جباههم الفخر، وبمثلهم تبُنى الأوطان.