قد يختلف كثيرون أو يتفقون على رؤية واحدة للصراع الدائر فى الولايات المتحدة الأمريكية، والأمر يتسع للاختلاف وتعدد الرؤى، لكن بعيدا من أية أحكام على الجمهوريين وترامب، أو على الديمقراطيين وإدارة الكونجرس، أو ما يخص الشارع الملتهب جزئيا، فإن مواقف شركات التكنولوجيا الكبرى فى القلب من هذا المشهد المركب، تبدو متناقضة ومشبعة بالازدواجية، وتصل فى بعض الأحيان إلى حدّ الخزى والبلطجة وانتهاك القيم الأمريكية نفسها!
رفض ترامب نتائج الانتخابات، ومن خلفه نحو 70 مليونا صوتوا له ولم يقبل كثيرون منهم بالنتيجة. تطور الأمر إلى مشاحنات سياسية، وشهد الشارع أعمال عنف من أفراد، لكن كل ذلك لا يُجيز مصادرة حرية الرأى، إن اعتبرنا تلك النوعية من الممارسات مقبولة تحت لائحة الديمقراطية وحرية الرأى. المشكلة أن شركات التكنولوجيا العالمية، وأغلبها تحمل الجنسية الأمريكية، حملت المشهد الأخير على باب العنف والتطرف والإرهاب، فى الوقت الذى قبلت وما تزال تقبل وتُمرر وتُروج مشاهد أكثر تطرفا ودموية فى مناطق أخرى من العالم، بدعوى أنها حرية رأى وتعبير!
انتفضت منصات التواصل الاجتماعى لتعلق حسابات دونالد ترامب ورموز إدارته، ثم انتقلت إلى حذفها نهائيا، بينما تعج المنصات نفسها بملايين الحسابات المنتمية إلى جماعات عنف، أو المحسوبة على دوائر متطرفة بدءا من جماعة الإخوان وتنظيم الدولة "داعش" وحركة الشباب الصومالية و"بوكو حرام" فى نيجيريا وغيرها، ولم تأخذ موقفا واضحا من كل تلك المجموعات رغم ما تسببت فيه من تطرف وإراقة دم. المشهد يبدو متناقضا بين قيم تعلنها تلك المنصات وتُجبر الجميع على قراءتها وقبولها، وتنفيذ انتقائى ملىء بالاجتزاء والتناقض والازدواجية. هكذا يقع المشهد فى باب فرض الأمر بالواقع بالقوة، والبلطجة المستندة إلى قدرة تلك الشركات المطلقة على السماح أو المنع، وعلى تمرير ما تريد وحذف ما لا يروق لها!
على الخط نفسه دخلت شركات التكنولوجيا البارزة، بقدر مشابه من الازدواجية والتناقض، إذ قررت جوجل وأبل حذف تطبيق "parler" الذى انتقل إليه ترامب بعد إغلاق حساباته على تويتر وفيس بوك وغيرها. فى الوقت الذى تمتلئ فيه منصتا الشركتين العملاقتين بآلاف التطبيقات المملوكة لجماعات متطرفة أو الداعمة لخطاب التطرف، والنموذج الأبرز "تليجرام" الذى يفتح أبوابه لـ"داعش" وكل التيارات الإرهابية، ويمنحهم قدرات تشفير وتقنية عالية لتمرير رسائلهم ومخططاتهم، وهو ما ثبت فى وقائع عديدة بشأن توظيف التطبيق فى إدارة أنشطة المجموعات الإرهابية بالمنطقة العربية وغيرها، واستغلاله فى ربط أجنحة التنظيمات وتمرير الأوامر والتوجيهات وخطط العمليات!
المؤكد أن القيم الأمريكية لا تقبل شرعنة العنف أو تمريره، لكن المحك الحقيقى والمنطقى أن يكون هذا الموقف عاما ومجردا من أية حسابات سياسية أو اقتصادية. الأمر يقتضى من شركات التكنولوجيا التصدى لخطابات العنف داخل الولايات المتحدة وخارجها بالدرجة نفسها، وإذا قررت مصادرة حق رئيس الولايات المتحدة الشرعى حتى الآن فى الحديث والوصول إلى مواطنيه، فمن الأولى مصادرة وجود المتطرفين والإرهابيين عبر منصاتها ومواقعها وتطبيقاتها ومحركات بحثها!
ما فعلته شركات التكنولوجيا العالمية تجاه ترامب يندرج تحت عنوان "التسلط ومصادرة حرية الرأى"، وما تنفذه تجاه تليجرام وغيره من التطبيقات والخدمات المفتوحة لخطابات التطرف والكراهية لا مسمى له إلا "دعم الإرهاب". ربما تكون تلك الشركات مجبرة على مواقفها داخل الولايات المتحدة لحسابات سياسية أو أمنية، أو حتى بوازع وطنى، لكنه لا مبرر إطلاقا لمواقفها خارج الولايات المتحدة سواء إنسانيا أو أخلاقيا أو قيميا. هناك دماء تسيل ومصالح تتضرر وبشر يعانون لأن شركات التكنولوجيا قررت ممارسة البلطجة "والفتونة" فى فرض رؤاها، وتعاملت مع الأمور التى تنتهك القانون الدولى والمعايير الإنسانية بقدر ضخم من التناقض والازدواجية!
تلك الشركات تستند بالتأكيد إلى قوتها الاقتصادية والتقنية، وغياب القدرة على المحاسبة والردع وإيقاف تلك الممارسات المشينة. لكن فى مقابل السطوة التى تساعدها على فرض إرادتها وقبول الإرهابيين وتمرير رسائلهم مقابل فرض الإرادة فى مصادرة من لا يتماشى مع مصالحهم وأهدافهم، هناك قوة فاعلة وأوراق ضغط ينبغى ممارستها فى مواجهة هذا الانفلات، من خلال الكشف والتعرية وفضح المواقف المخزية، وتشجيع الدول والحكومات والمؤسسات الدولية على اتخاذ مواقف جادة تجاه بلطجة منصات التقنية، سواء بإلزامها باحترام حرية الرأى وفق معناها القويم، أو منعها من فتح أبواب ذهبية لخطابات الكراهية والعنف وممارسات الإرهاب وإراقة الدم!
قد لا تهتم الشركات بهذا الموقف، وقد لا تجد نفسها مضطرة لتقديم تبريرات مقنعة، أو الاعتذار عن جرائم حقيقية تورطت فيها، لكن مواصلة الفضح والضغط والتصدى لتلك الممارسات ربما يُقوض حضورها بين الناس، ويؤثر على مكاسبها، ويدفع فى اتجاه اكتشاف بدائل إعلامية واجتماعية قادرة على خلق حالة توازن فى وجه تلك الغطرسة والممارسات المخزية. والمؤكد أنه مع الوقت والتكرار، ستعرف تلك الشركات حجم جرائمها، وأنهم ليسوا دعاة حرية أو ممارسة اجتماعية سليمة كما يدعون، بقدر ما ينفذون سياسات مشوهة بحثا عن مكاسب مادية، أو دعما لتأثيرات سياسية لا تحترم القانون ولا تضع اعتبارا للدماء والأرواح!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة