عندما تنظر إليه للوهلة الأولى، ربما ترى أن بشرته "السمراء" السبب الرئيسى وراء اختياره، فى منصب وزير الدفاع في الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة مع حالة الاستقطاب الكبير الذى تشهده الساحة الأمريكية فى الداخل، مع تصاعد النزعة العنصرية، وتنامى حالة الانقسام السياسى، بين مختلف الأطياف في الولايات المتحدة، إلا أن اختيار لويد أوستن لقيادة "البنتاجون" ربما تجاوز مسألة الأعراق التي اعتاد الديمقراطيين على استخدامها لتصدير فكرة التنوع والاندماج بين كافة الفئات داخل المجتمع الأمريكى، على غرار الكثير من السوابق التى ارتبطت باختيارات الإدارات الديمقراطية المتعاقبة، لعقود طويلة من الزمن، ليصبح وجوده على رأس أحد أقوى المؤسسات فى الولايات المتحدة مؤشرا مهما للنهج الذى يرغب سيد البيت الأبيض الجديد.
ولعل اختيار شخصية غامضة، على غرار أوستن، والمعروف بـ"الجنرال الصامت"، لوزارة الدفاع فى الولايات المتحدة، من شأنه إضفاء المزيد من الإثارة والشغف حول السياسات المرتقبة التى سوف تنتهجها إدارة جو بايدن، فى التعامل مع مختلف الملفات العسكرية، فى ضوء معطيات أبرزها التغيير الكبير الذى شهدته واشنطن سواء فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية المرتبطة بمسألة الانتشار العسكرى فى العديد من مناطق العالم، وارتباطه بنظرية "النفوذ" الأمريكي، من جانب، أو الموقف الذى تتبناه الإدارة الجديدة تجاه الخصوم والحلفاء فى السنوات المقبلة، من جانب أخر، بالإضافة إلى احتواء حالة التعارض الكبير في الرؤى بين القيادات والجنود داخل الجيش الأمريكى، تجاه مواقف الإدارات المتعاقبة من التعامل مع مختلف القضايا.
وهنا يعد اختيار أوستن، فى منصب وزير الدفاع فى الولايات المتحدة، يحمل أبعادا تتجاوز قضايا العرق، أو حتى دور المؤسسة العسكرية، ليحمل في طياته ما هو أبعد من ذلك، عبر تقديم صورة أولية حول السياسة الخارجية التى ستتبناها الولايات المتحدة في عهدها الجديد، في ضوء ارتباط الدبلوماسية الأمريكية بسياستها العسكرية، سواء فيما يتعلق بالحلفاء، على غرار أوروبا التى ترتبط بأمريكا عبر حلف عسكرى تاريخى، وهو الناتو، أو الخصوم، كالصين وإيران، وروسيا، مع تصاعد الخلافات بينهم وبين الولايات المتحدة، وما سوف تؤول إليه تلك الخلافات، أو حتى فيما يتعلق بمسألة الانسحاب، أو على الأقل تخفيف الوجود العسكرى، فى مناطق الصراعات التقليدية، كأفغانستان والعراق وغيرها.
بايدن – أوستن.. صوت معارض داخل إدارة أوباما
فلو نظرنا إلى المواقف السابقة التي تبناها الجنرال أوستن، نجد أن ثمة خلافات كبيرة ثارث بينه وبين الرئيس الأسبق باراك أوباما، حول استراتيجية زيادة الجنود في أفغانستان، لانتزاع السيطرة على المناطق التي حظت بهيمنة حركة طالبان، حيث اعتبر أن الولايات المتحدة بحاجة ملحة إلى استراتيجية أكثر استهدافا، تقوم على مكافحة الإرهاب، معتبرا أن الجهود الأمريكية لابد أن ترتكز على القضاء على التنظيم عبر ملاحقة عناصره القيادية، وليس مجرد استعادة السيطرة على المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وهى الرؤية التي لاقت مباركة كبيرة من قبل نائب الرئيس الأمريكي حينها جو بايدن.
الخلط بين المؤسسة العسكرية والدبلوماسية، لم يروق كثيرا لأوستن، في ظل إدارة أوباما، حيث اعتبر أن تعيين عسكريا ليكون مبعوثا للتحالف الدولى للقضاء على الإرهاب في سوريا والعراق "خطأ" كبير، حيث سيؤدى إلى حالة من الخلط بين القيادتين العسكرية والدبلوماسية للتحالف، وهو التعليق الذى أثار جدلا كبيرا في ذلك الوقت، لتصبح كلمات "الجنرال الصامت"، وإن كانت قليلة مؤشرا مهما للكيفية التي يدير بها البنتاجون ملفات "الدبلوماسية العسكرية".
بين سياسة الانتشار والانسحاب.. أوستن "طريق وسط"
وهنا يصبح اختيار أوستن بمثابة مؤشر مهم نحو التوجه إلى نهج أكثر توازنا في المرحلة المقبلة، يقوم في الأساس على الاحتفاظ بالدور العسكرى الأمريكي في الخارج، ولكن دون مزيد من الانتشار، وبالتالي الاتجاه نحو "طريق وسط" بين سياسة الانتشار العسكرى "غير المحدود" التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية السابقة، من جانب، وسياسة الانسحاب الكامل، والتي انتهجها الرئيس السابق دونالد ترامب، من جانب أخر
رؤية أوستن من شأنها تقليل الفجوة الكبيرة بين عدد كبير من قيادات البنتاجون، والذين يؤمنون بارتباط الوجود العسكرى الأمريكي في العديد من مناطق العالم، باحتفاظ واشنطن بنفوذها الدولى، باعتبارها "شرطى" العالم القادر على احتواء الأزمات الدولية، عبر وجودها العسكرى على الأرض، من جانب، والجنود الأمريكيين وكذلك قطاع كبير من المواطنين، الذين يرون أن تلك السياسة أضرت كثيرا بالولايات المتحدة سواء اقتصاديا بسبب المليارات التي تكبدتها الخزينة بسبب الحروب، أو جراء ألاف الأرواح التي خسرتها أمريكا فى مناطق الصراع، وبالتالي فقد كانت سياسات الانسحاب التي تبناها ترامب سببا مهما في زيادة شعبيته بين المواطنين في السنوات الماضية.
الدبلوماسية والعسكرية.. "الصبر الاستراتيجى" رؤية أوستن للفصل بينهما
وسطية أوستن بين منهجى التشدد العسكرى، والاعتدال ربما لا تختلف إذا ما نظرنا إلى توجهاته الدبلوماسية، فهو صاحب نظرية "الصبر الاستراتيجى"، والتي طالما تناولها عند الحديث عن الخلافات العميقة بين الولايات المتحدة والصين، خلال حقبة أوباما، فهو لا يبقى من مؤيدى التصعيد ضد بكين، بينما في الوقت نفسه يرى الحاجة الملحة إلى انتهاج مواقف حاسمة، بالطبع دبلوماسيا، تجاهها، وهو الأمر الذى ينطبق إلى حد كبير في مواقفه تجاه مختلف الخصوم الدوليين، كإيران وروسيا بالإضافة إلى كوريا الشمالية.
ففي الوقت الذى يتوقع فيه قطاع كبير من المتابعين والمحللين أن ثمة تقارب تشهده واشنطن مع إيران، على سبيل المثال، استنادا على الاتفاق النووي الإيراني، الذى أبرمته إدارة أوباما، مع طهران قبل ما يقرب من 6 سنوات، على اعتبار أن بايدن كان الرجل الثانى في تلك الإدارة آنذاك، نجد أن أوستن يراها تهديد للقوات الأمريكية ولحلفاء واشنطن في المنطقة، مما يعنى أن هناك تصعيدا في "النبرة" الدبلوماسية، إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون مرتبطا بتصعيد أخر عسكرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة