فى الثالث عشر من يونيو عام 1906 وقعت حادثة دنشواى التى كان مقدرًا لها أن تهز مصر كما لم تهزها حادثة من قبل، إلى حد القول، إنها هدمت كل ما حاول اللورد كرومر أن يبنيه طوال 23 عامًا بينه وبين المصريين وبخاصة أصحاب الجلابيب الزرقاء "الفلاحون"، وانتهى الأمر إلى الإطاحة بكرومر من فوق عرشه إثر أصداء المأساة وتوابعها فى أوروبا، ومثلما هبطت الحادثة بكرومر فإنها ارتفعت بمصطفى كامل إلى الذروة.
ينشر "اليوم السابع" بالمستندات حيثيات وأسباب ومنطوق الحكم في قضية دنشواى بعد مرور 115 سنة على الواقعة التي كان لها أثراَ كبيراَ في تدويل قضية استقلال مصر خارجيًا، وربما هي واحدة من الأحداث التي هزت عرش بريطانيا في مصر وفى منطقة الشرق الأوسط، وتعتبر من الجرائم التي غيرت وجه التاريخ، فبعد الأحكام المجحفة التي صدرت ضد عدد كبير من المصريين، على خلفية أحداث دنشواى والتي وقعت عام 1906، وقام مصطفى كامل بحملة صحفية داخلية وأخرى دولية وجولة في أوروبا للتشهير بمظالم الاحتلال وفضح سياسته.
وإليكم أسباب ومنطوق الحكم:
-باسم الجناب الخديوى المعظم
-عباس حلمى الثانى
-المحكمة المخصوصة
بجلستها العلنية المنعقدة بمدينة شبين الكوم بسراى المديرية في يوم الأربعاء 27 يونيو الموافق 5 من جمادى الأولى الساعة الثامنة والنصف صباحا.
تحت رئاسة صاحب العطوفة بطرس باشا ناظر الحقانية بالنيابة وبحضور حضرات المستر ويليم جودنفا هيتر المستشار القضائى بالنيابة، والمستر بوند، وكيل محكمة الاستئناف الأهلية، والكولونيل لادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء في جيش الاحتلال، وأحمد فتحى زغلول بك رئيس محكمة مصر الأهلية أعضاء، وعثمان مرتضى بك سكرتيراَ.
صدر الحكم الآتى:
في قضية التعدى الذى وقع من بعض أهالى دنشواى بمركز شبين الكوم بمديرية المنوفية في يوم 13 يونيو سنة 1906 بالناحية المذكورة على خمسة ضباط من جيش الاحتلال الذى نشأ عنه قتل أحدهم وكسر ذراع آخر وإصابة الباقين.
بعد سماع أقوال الاتهام وشهادة الشهود والمدافعين عنهم وبعد الاطلاع على أوراق الدعوى وبعد المداولة فيها: حيث أن فرقة من جيش الاحتلال تركت مدينة القاهرة يوم الاثنين 11 يونيه سنة 1906 قاصدة ثغر الإسكندرية من طريق البر، وبعد مسيرة يومين وصلت إلى ناحية كمشيش بمركز تلا منوفية في صبيحة يوم الأربعاء 13 من الشهر المذكور.
الماجور "بين كوفين" قومندان رغب في صيد الحمام
وحيث أن الماجور "بين كوفين" قومندان هذه الفرقة كان قد رغب في صيد الحمام من ناحية دنشواى بمركز شبين الكوم لسبق تعوده على ذلك منذ سنتين مضياَ، فقد قصدها ومعه أربعة من ضباطه وهم اليوزباشى بول والملازمان بورثر وسميث ويك والدكتور بوستك حيث الساعة الثانية بعد ظهر اليوم المذكور في عربتى نقل في كل واحدة اثنان منهم، وكان الخامس راكباَ جواده بملابسهم العسكرية وشارات رتبهم يرافقهم أحد أومباشية البوليس المصرى وعبد العال صقر المترجم.
وحيث أنهم وجدوا عند وصولهم عدداَ من أهالى تلك الناحية يختلف بين الخمسة والستة أشخاص كأنهم في انتظارهم، وأرسلوا الأومباشى ليخبر العمدة بحضورهم كى يلاقيهم بالخفراء حسب عادتهم، وكان المترجم قد شرع بالكلام مع أولئك الأهالى المنتظرين وبعد برهة قال لهم أنه لا مانع من الصيد بشرط الابتعاد عن البلد.
وحيث أنهم بناء على ذلك افترقوا ووقف القومندان "بين كوفين" واليوزباشى "بول"، والملازم سميث ويك في الجهة البحرية على بعد 500 متر من مساكن البلد وكل واحد منهم على بعد 70 متراَ تقريباَ من رفيقه، وتوجه الملازمان بورثر والدكتور بوستك إلى إلى جهة الجنوب، ووقفا متباعدين على مسافة 100 متر تقريباَ من الأجران.
الملازم بورثر يبدأ الصيد بإطلاق 9 عيارات على الحمام
وحيث أن الملازم بورثر بدأ بالصيد فأطلق نحو تسعه عيارات على الحمام الطائر إثر بعضها، وإذا بنار قد اشتعلت في جرن محمد عبد النبي "المؤذن"، ولم يكن إلا خمس دقائق حتى أطفئت، إلا أن صاحب الجرن قصد الملازم وأمسك بسلاحه، وعلى أثره اجتمع نحو 30 شخصا بعضهم أمسك معه والتف الباقون بالضابط المشار إليه وجعلوا يتجاذبون سلاحه، حتى انتزعوه منه، فخرجت طلقات منه أصابت محمد عبد النبي "المؤذن" المذكور، كما أصيب أيضا عامر عيد شيخ الخفراء وعلي الدبشة ومحمد داود.
وحيث إنه بينما كان هذا يجري جهة الجنوب وقع في جهة الشمال إنه بينما كان اليوزباشي بول يصوب سلاحه على حمامة طائرة أمسك أحد أولئك المنتظرين بيده السلاح ومنعه عن إطلاق، فرآه الماجور "بين كوفين"، وقصده ليعلم الخبر فلاح له دخان النار المشتعلة في جرن محمد عبد النبي ورأى ذلك الذي أمسك بسلاح زميله ليشير إليهما على ذلك الدخان، كما شاهد نحو تسعة أشخاص مقبلين نحوهما مسرعين وخلفهم المترجم يصيح بالإنجليز "الأهالي أحاطوا بضباط الجنوب".
وقائع تجمهر الأهالى حول الضباط الإنجليز
وحيث إن الماجرو "بين كوفين" قصد هو ورفيقه زميلهما، فرأيا جمعا يتكاثر حولهما والملازم لا يرضى أن يترك سلاحه لمن أخذه، ولحظ علائم الشر بادية على وجوده المتجمهرين ولم يكتنف بذلك بل أخرج ساعة من جيبه وأعطاها إياه، وأشار إلى رفاقة ففعلوا مثله بسلاحهم وتقدم إلى الجمع وانتشل منهم الملازم بورثر وأمسكه زملائه على هيئة مذنب واتجهوا جميعا إلى النقطة التي تركوا بها عرباتهم وجوادهم، وحيث إن المتجمهرين وقد ازدادوا شرا فتبعهم وانهالوا عليهم ضربا بالعصي ورميا بالطوب والقلقيل وقد سقط الماجور "بين كوفين" على الأرض بضربة على رأسه ثم قام فأقعدت ثانية وما زالوا.
وحيث إن الماجور "بين كوفين" رأى أن الأهالي لا ينفكون عنهم، فأشار على اليوزباشي بول بتسليم السلاح فأطاع، إلا أن الأهالي أصابوه بضربة شديدة في رأسه فخرق يعدو كان الحر محرقا حتى سقط وسط الطريق فاقد الرشد إذ أصابته الشمس أيضا وقد نقل إلى المعسكر فمات في الساعة السابعة من مساء اليوم المذكور.
وحيث أن المتجمهرين منعوا القومندان ورفافه من الذهاب إلى النقطة التي تركوا بها عرباتهم وجوادهم وقادوهم والضرب فوقه والطوب والقلقيل ينهال عليهم حتى أوصلوهم إلى حيث المرأة المصابة، أجلسوهم وجعل بعضهم يشير إلى المرأة تارة ويجر بيده تارة أخرى ليفهمهم أنه يريد قتلهم كما قتلوها وهي لم تقبل ثم سحبوهم إلى مكان الحريق بالضرب وبعد ذلك نقلوهم إلى شجرة وكان الخفراء بدءوا يتوافدون فأخذ الجمع يتفرق وجاء أحد ضباط البوليس من نقطة قريبة لمكان الواقعة حيث أخطروه بالتليفون وحملوهم إلى معسكرهم.
كسر ذراع الماجور "بين كوفين"
وحيث أن ذراع الماجور "بين كوفين" اليسرى كسرة في ضربة نبوت وكسر أنفس الملازم سميث ويك برمية وجر وأصيب هما والآخرون بإصابات متعددة في أجزاء مختلفة من أجسامهم فصلتها الكشوف الطبية.
وحيث أن الكشف الطبي الأول الذي وقع على اليوزباشي بول قبل وفاته أثبت أنها مسببة عن ارتجاج في المخ ناشئ عن الضربة التي أصابته في رأسه وعن أصابة الشمس التي نزلت به وهو يقصد المعسكر، وأثبت التشريح الذي أجراه حضرة طبيب المحاكم الشرعي أن تلك الضربة أحلت الارتجاج حقيقة وأنها وإن لم تكن كافية وحدها إلى إحداث الوفاة إلا أنها أضعفت المصاب وأعدته لسرعة التأثر بإصابة الشمس وسهلت موته.
وحيث إن المتجمهرين سلبوا من الضباط أشياءهم كساعة وسلسلة ومفاتيح وصفارة وغير ذلك كما أخذوا سلاحهم، وحيث أن المحققين عثروا في منازل بعض المتهمين على بعض الأسلحة ووحدا عند بعضهم قسما من الملبوسات.
وحيث إن الضرب كان عمدا وكان مصوبا إلى المقاتل وقد أدى إلى وفاة أحد المصابين فالواقع قتل سبقه أو اقترن به أو تلاه جريمة معاقب عليها بنص قانون العقوبات المصري.
وحيث إن هذه الجريمة وقعت على ضباط جردوا أنفسهم من السلاح وأصبحوا لا حول لهم إلا النجاة وهم لا ينالونها مع ما بذلوه من المجهود ولم يبد منهم عداء ولم يقع منهم قول أو تصدر منهم إشارة توجب خنق المتعدين حتى ينكلوا بهم هذا التنكيل.
كيف كانت الجريمة مع سبق الاصرار والترصد؟
وحيث أن هذه الجريمة كانت عن عمد وسبق إصرار ظاهر من اقتران الحريق يتكاثر المعتدين فجأة على الضابطين اللذين كانا في الجهة القبلية وإمساك الضابط بول في الجهة البحرية مع الإشارة إلى ذلك الدخان وعدم من يشفق على ضيف لم يفعل أمرا يوجب التعنيف فضلا عن التغالي في الاعتداء إلى درجة إزهاق الروح مع وجود القادرين على منع ذلك بين المتجمهرين بل إن أولئك القادرين كانوا أشد هولا على الضباط ولا رحمة ولا حنان.
وحيث إنه مما يزيد في شناعة هذه الجريمة أنها وقعت على ضباط عرفوا بالبسالة وجابوا مواقع الحروب وكان في إمكانهم صيد المتعدين بدلا من صيد حمامهم ولكنهم ظنوا جميلا فسلموا عدتهم ليسلموا فكان العطب فيما فعلوه، وحيث إن ثلاثة أيام تسمع فيها هذه الدعوى وشهادة الشهود وأقوال الاتهام والدفاع عن المتهمين وقد ثبت أن المجرمين في هذه الحادثة هم:
حسن علي محفوظ ويوسف حسين سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران ومحمد عبد النبي المؤذن وأحمد عبد العال محفوظ وأحمد محمد السيسي ومحمد علي أبو سمك وعبده البقلي وعلى علي شعلان ومحمد مصطفى محفوظ و رسلان السيد سلامة والعيسوي محمد محفوظ وحسن إسماعيل السيسي وإبراهيم حسانين السيسي و محمد الغباشي و السيد العوفي وعزب عمر محفوظ والسيد سليمان خير الله وعبد الهادي حسن شاهين ومحمد أحمد السيسي.
وحيث إن هؤلاء المتهمين لم يتركوا بعملهم الفظيع هذا محلا للشفقة فما كانوا من المشفقين.
وحيث أن رؤساء هذه الواقعة هم الأربعة الأولون، فهم أهاجوا الأهالي وأولهم كان للضباط في نفر من المتربصين.
حكم المحكمة
فبناء على هذه الأسباب
وبعد الاطلاع على المواد الرابعة والخامسة والسادسة من الأمر العالي الرقم 25 فبراير سنة 1905.
حكمت المحكمة حضوريا حكما لا يقبل الطعن بمعاقبة:
أولا: على حسن محفوظ ويوسف حسين سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران بالإعدام شنقا في قرية دنشواي.
ثانيا: على محمد عبد النبي وأحمد عبد العال محفوظ بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ثالثا: على أحمد السيسي بالأشغال الشاقة 15 سنة.
رابعا: على محمد على أبو سمك وعبده البقلي وعلى علي شعلان ومحمد مصطفى محفوظ ورسلان السيد علي والعيسوي محمد محفوظ بالأشغال الشاقة سبع سنين.
خامسا: على حسن إسماعيل السيسي وإبراهيم حسانين ومحمد السيد بالحبس مع الشغل سنة واحدة وبجلد كل واحد منهم خمسين جلدة وأن ينفذ الجلد أولا بدنشواي.
سادسا: على السيد الغولي وغريب عمر محفوظ والسيد سليمان خير الله وعبد الهادي حسن شاهين ومحمد أحمد السيسي بجلد كل واحد منهم خمسين جلدة بقرية دنشواي أيضا.
سابعا: براءة باقي المتهمين والإفراج عنهم فورا إن لم يكونوا محبوسين بسبب آخر وعلى مديري المنوفية تنفيذ هذا الحكم.
يشار إلى أن إلا حادث "دنشواى" تُعد أول تنفيذ لحكم بالإعدام شنقاَ في العصور المعروفة بالحديثة تلك الواقعة التى كانت بمثابة انطلاق للثورة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي ووقف فيها أهالي قرية دنشواى بمركز الشهداء ضد ضباط الاحتلال الإنجليزي، تلك الحادثة التي هزت أركان بريطانيا جاءت أحداثها في 11 يونيو 1906 عندما تحركت القوات البريطانية من القاهرة إلى الإسكندرية عبر الطريق الزراعي ثم وصلت إلى المنوفية يوم الأربعاء 13 يونيو 1906.