بين العداوة الكبيرة للصين، والتباعد مع أوروبا الغربية.. هكذا يجد الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن نفسه محاطا بأزمات دبلوماسية كبيرة، فى ظل توجهاته التى تختلف جذريا عن أولويات سلفه دونالد ترامب، لتصبح المهمة الرئيسية التى تضعها إدارة بايدن على عاتقها هى "العودة إلى الوراء"، عبر استعادة العلاقات الدولية لواشنطن إلى ما كانت عليه فى مرحلة "ما قبل ترامب"، من خلال استعادة العلاقات مع حلفاء أمريكا التاريخيين فى القارة العجوز، وتحقيق التوازن فى العلاقة مع الصين، لتعود إلى طبيعتها التنافسية، بعيدا عن "الخصومة" التى صنعتها معها الإدارة السابقة، ووضعت العالم على حافة حرب تجارية، ربما كانت تأكل الأخضر واليابس حال استمراريتها، لتعود بالتبعية روسيا إلى موقعها باعتبارها "الخصم" التاريخى للمعسكر الغربى، منذ الحرب الباردة، بعد مهادنة دامت خلال السنوات الأربعة الماضية.
ولعل شكل الدبلوماسية الأمريكية غالبا ما يتحدد، ليس فقط بالخطاب السياسى الذى يتبناه الرئيس الجديد، مع بداية كل حقبة، وإنما غالبا ما يرافقه مدلولات، تعمل على ترجمته إلى حقائق، وعلى رأسها الزيارة الخارجية الأولى التى يجريها سيد البيت الأبيض، بعد اعتلائه العرش الأمريكى، وهى الزيارة التى دائما ما تكون محط الأنظار، لأنها غالبا ما تساعد على تحليل رؤية التوجه الدولى الذى تتبناه الإدارة، خلال سنواتها الأربعة، ليثور التساؤل حول أول محطات بايدن الخارجية، والتى من المؤكد أنها ستكون بعد عدة أشهر، فى ظل المخاوف المرتبطة بتفشى فيروس كورونا.
من المؤكد أن أوروبا الغربية ستكون على رأس أجندة بايدن الدولية، فى إطار رغبته لاستعادة العلاقات بصورة كبيرة، مع الحلفاء التاريخيين لواشنطن، خاصة وأن قيادة أمريكا للمعسكر الغربى، كان أبرز مؤهلاتها لقيادة النظام الدولى لعقود طويلة، سواء بالشراكة أولا مع الاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة، أو بمفردها، بعد انهيار خصمها الروسى اللدود، والذى ارتبط كذلك بحدث أوروبى جلل، وهو سقوط حائط برلين فى نهاية الثمانينات من القرن الماضى، ليكون بمثابة المقدمة لنهاية حقبة "الشيوعية" ودعاتها، والتوجه نحو نظام يدعو للرأسمالية العالمية، وما احتوته فى طياتها من مصطلحات سياسية وأيديولوجية، سعت واشنطن وحلفائها لإرسائها، تحت مظل عالم "أحادى القيادة"، تقوده أمريكا.
العودة إلى برلين.. هل يعيد بايدن ألمانيا إلى الواجهة الأوروبية؟
عندما انهار حائط برلين فى عام 1989، وتوحدت الألمانيتين، كانت البداية، ليس فقط لانهيار الاتحاد السوفيتى، أو انفراد الولايات المتحدة بصدارة المشهد الدولى فقط، ولكن فى حقيقة الأمر، كان المنطلق الحقيقى لتغيير خريطة التحالفات الأمريكية فى قلب القارة العجوز، فى إطار تبدل الأدوار بين القوى الأوروبية الرئيسية، فى ظل خفوت نجم الامبراطوريات التقليدية (بريطانيا وفرنسا)، لصالح ألمانيا، التى باتت تمثل قوة اقتصادية كبيرة، يمكنها قيادة القارة العجوز، حيث اتجهت واشنطن نحو التباعد التدريجى عن القوى القديمة، لصالح برلين، ليتجلى التحالف الجديد فى أبهى صوره، خلال حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذى اعتمد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتكون بمثابة "صوت أمريكا" فى أوروبا، مما يضع برلين على خريطة أولويات بايدن، لتكون خيارا محتملا لوجهته الخارجية الأولى، خاصة بعد التوتر الذى شاب العلاقات بين البلدين خلال الإدارة السابقة، سواء اقتصاديا أو سياسيا أو حتى عسكريا فى ظل التنافر بين ترامب والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ميركل وبايدن
إلا أن الساحة الدولية، وفى القلب منها ألمانيا، تبدو على موعد مع تغييرات جذرية، في ظل معطيات فرضها الواقع في السنوات الأربعة الماضية، وعلى رأسها خروج ميركل من المعادلة الألمانية بإعلانها التقاعد، قبل عامين، وبالتالي عدم دخولها الانتخابات المقررة هذا العام في برلين، مما قد يساهم في خلق حالة من "الفراغ" على الساحة السياسية في ألمانيا، في ظل تراجع الثقة الدولية في خليفة "المرأة الحديدية"، والتي نجحت في الفوز بثقة بدائرة صناعة القرار الدولى، سواء في واشنطن أو أوروبا، لتضع بلادها على قمة هرم "الاتحاد الأوروبى" لسنوات طويلة، وبالتالي يبقى خيار برلين، ليكون محطة بايدن الخارجية الأولى، محل شك كبير، في ظل حاجته إلى طرف أكثر "وثوقا" ليواصل رسالة القيادة الأمريكية للعالم.
حلم ماكرون.. رحلة بايدن إلى باريس تعيد فرنسا إلى مقعد القيادة
سنوات طويلة، غابت خلالها فرنسا عن صدارة الساحة الأوروبية، لأسباب عدة، من بينها الدعم الأمريكي لألمانيا، بالإضافة إلى تراجع مكانة باريس الدولية منذ الحقبة الاستعمارية، ليأتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، محملا بطموح العودة إلى القيادة الدولية عبر بوابة الاتحاد الأوروبى، ليقدم نفسه باعتباره أحد أكثر المؤمنين بالوحدة، ليسعى لملء الفراغ الناجم عن التباعد بين المستشارة الألمانية والرئيس الأمريكي السابق، إلا أنه توجهاته الوحدوية لم تروق لترامب، الذى بقى مفضلا لبريطانيا، التي آثرت الانفصال عن الاتحاد الأوروبى، لتصبح أكبر حلفاء واشنطن في الحقبة السابقة.
ماكرون سعى لاسترضاء ترامب دون جدوى.. فهل يحى بايدن طموحاته؟
ولكن يبقى بايدن مؤمنا بضرورة بقاء الاتحاد الأوروبى، باعتباره أحد ثمار نظام دولى أرسى قواعد القيادة الأمريكية الأحادية للعالم، وبالتالي تبقى باريس أحد الوجهات المحتملة للرئيس الأمريكي الجديد، في ظل خفوت نجم برلين، عقب تقاعد ميركل، ناهيك عن الحاجة إلى قيادة جديدة يمكنها استعادة قوة التكتل القارى، ومجابهة المحاولات البريطانية للسيطرة على مقدرات القارة، من خارج الاتحاد الأوروبى.
ويعد قرار بايدن للعودة إلى اتفاق باريس المناخى، ليكون أول قرارته بعد دخول البيت الأبيض، إشارة صريحة إلى احتمال التقارب مع فرنسا، خاصة وأن الاتفاق المناخى يمثل جزءً مهما من نفوذها الدولى، وهو ما يفسر غضب ماكرون الشديد جراء قرار ترامب بالانسحاب منه قبل أكثر من عام، مما دفعه آنذاك للتشكيك في مستقبل الناتو، والذى يحمل بقائه مدلولا رمزية على الهيمنة والقيادة الأمريكية للعالم.
مقر أوروبا الموحدة.. بروكسيل محطة محتملة لبايدن
أما مدينة بروكسيل، فهى تعد العاصمة الفعلية للاتحاد الأوروبى، وبالتالي فتبقى أحد أهم المحطات المحتملة للرئيس الأمريكي الجديد، ليستهل بها زياراته الخارجية، خاصة وأنها تمثل دعما صريحا، لا يحمل المواربة للاتحاد الأوروبى، خاصة بعد الشكوك التي أثارتها سياسات ترامب تجاه التكتل القارى، وهو الأمر الذى أثار توترا كبيرا في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة.
مقر الاتحاد الأوروبى ببروكسيل
وعلى الرغم من استبعاد بلجيكا للقيام بدور كبير كحليف موثوق لإدارة بايدن، إلا أن وجود مقر الاتحاد الأوروبى بها، يعطيها ثقلا دبلوماسيا كبيرا، في المرحلة المقبلة، مما يزيد احتمالات أن تكون محطة مهمة في جولات بايدن الخارجية، إن لم تكن قبلته الأولى، خلال أول الجولات الخارجية التي سيقوم بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة