حين توفى الدكتور عزيز صدقى، صاحب لقب «أبو الصناعة المصرية» فى المستشفى بباريس يوم 25 يناير، مثل هذا اليوم، 2008، كانت «الخصخصة» التهمت الكثير من المصانع التى شيدت فى ستينيات القرن الماضى وقت أن كان وزيرا للصناعة المصرية، وحين التقيت به فى شهر مايو 2005 فى حوار صحفى امتد لساعات، قال متحسرا: «كل مصنع بيبيعوه ببكى عليه، لأنه ابن من أبنائى»، وروى جانبا من سيرته وسيرتها.
عاش «صدقى» 88 عاما إلا شهور قليلة «مواليد 1 يوليو 1920»، أى أنه عاصر المرحلة الملكية، ثم الجمهورية، وشاهد التحولات الجذرية للمجتمع المصرى، كان والده طبيبا وشغل موقع مدير المستشفيات العامة بوزارة الصحة قبل أن يتفرغ لعيادته الخاصة، وبذلك كان ابنا لأسرة ميسورة الحال، وحصل على شهادة الهندسة، ثم سافر إلى أمريكا لدراسة الدكتوراه عام 1946، وعاد بها فى فبراير 1952، وبعد شهور قليلة قامت ثورة 23 يوليو، ليبدأ معها رحلة صعوده التى ارتبطت بقصة صعود التصنيع فى مصر.
قال لى: «حصلت على الدكتوراه عن حتمية التصنيع فى مصر، فإمكانية التوسع الزراعى لها حدود تتوقف عندها، وتصبح الصناعة حتمية للمجتمع الذى يريد النهوض.. تساءلت فى رسالتى: هل يمكن أن ينجح التصنيع لدينا؟.. أجبت: «نعم نستطيع».. ولما قامت ثورة يوليو 1952 عملت المجلس القومى للإنتاج، ثم مجلس الخدمات برئاسة عبداللطيف بغدادى، وانضممت إليه عضوا متفرغا، وكانت ميزانيته 14 مليون جنيه، ولأنى أحمل دكتوراه تخطيط، أعددت مع زملائى دراسات حول تقديم الخدمة فى القرى، وفكرنا فى شىء اسمه «الوحدة المجمعة»، وتشمل خدمات صحية وبيطرية وتعليمية فى مجمع واحد، وعملنا لها أكثر من تصميم هندسى.
زارنا عبدالناصر عام 1954.. وعرضت أمامه هذه التصميمات والدراسات، ثم عدنا لاجتماع لمجلس الإدارة.. قال: أنا سعيد جدا..لأن خطوتكم الأولى تسير فى الاتجاه الصحيح.. فى اليوم التالى كلمنى محمد حسنين هيكل، قائلا: الرئيس كان عندكم إمبارح، وهو مبسوط وقال لى، فيه واحد اسمه عزيز صدقى، روح له يشرح لك الحاجات اللى تكلم عنها أمامى.. تقدر تقول إنه اكتشفنى فى اليوم ده، وبعده قرر تعيينى فى مجلس إدارة شركة مصر للتأمين، وشركة كفر الدوار، ورشحنى لرئاسة مركز التدريب المهنى والكفاية الإنتاجية التابع لهيئة العمل الدولية.. كان بيجربنى، هو لا كان قريبى، ولا نسيبى ولا صديقى.. لكن عينيه كانت على الكفاءة.
يتذكر: طلب عبدالناصر رسالتى للدكتوراه وقرأها ثم طلبنى، فذهبت إليه فى منزله بمنشية البكرى، ووجدت هناك الدكتور مصطفى خليل، والمهندس سيد مرعى، دخلت عليه فى حجرة صغيرة، كان يجلس على كنبة ومعه أنور السادات.. وبعد الترحيب قال لى: حاولنا نعمل مجلس إنتاج وغيره.. وكلها محاولات غير كافية.. عاوزين صناعة حقيقية.. عاوزك تمسك الصناعة، فكر وبعدين نتناقش.. كان ذلك فى أول يوليو 1956، وكل أما أفتكر اللحظة دى، أقول إنه هو صاحب القرار والفضل فى نهضة الصناعة مش أنا.
يضيف: «بدأنا من غرفة بوزارة التجارة، أعددنا برنامج تصنيع طموح عام 1957، قدمته إليه، تناقشنا، قال لى: يا عزيز لو نفذنا منه 40 % فقط سيكون إنجازا عظيما.. وطلب منى عرضه أمام مجلس الوزراء كما عرضته أمامه، ووافق المجلس، وخصص 12 مليون جنيه كأول ميزانية للتصنيع.. وبدأت المسيرة».
اقتحمنا كل مجالات التصنيع، النسيج، الصناعات الغذائية، مواد البناء، الأسمنت، السكر، الحديد والصلب، الدواء، السيارات.. كل المجالات.. يذكر: أى برنامج تصنيع يبدأ من سؤال: ما دور التصنيع فى بناء المجتمع؟.. الإجابة: يبدأ بمعرفة احتياجاتنا الأساسية، يا نستوردها، يا ننتجها.. كان تعدادنا 19 مليونا، ونزيد سنويا نحو مليون و300 ألف نسمة، وكان المطلوب توفير احتياجات لهؤلاء، ونمشى مع النمو السكانى بتصنيع كل السلع المطلوبة والأساسية، ونتيح فرص العمل لأكبر عدد ممكن وهذا كان هدفا أساسيا عند عبدالناصر.. كل ما أفتح مصنع يسألنى: كم عامل اشتغل؟
أما الهدف الثانى فهو مساهمة الصناعة فى رفع مستوى الدخل العام..وطبعا الاستقلال الاقتصادى كان الهدف الكبير، لأن الاعتماد على الاستيراد يعنى أن قرارنا لن يكون حرا، وعشان تكون حرا لازم تنتج، لازم تصنع.
قلت له: فيه ناس اتهمتك «بالفشر» لما بتتكلم عن إنشاء ألف مصنع..سألنى: من قال الكلام الفارغ ده؟.. قلت :«أنيس منصور».. رد ساخرا: «مين أنيس ده؟.. ده من اللى ميعرفوش الفرق بين المشرط والمخرطة، وبيعملوا نفسهم فلاسفة.. على فكرة العدد أكبر، لكن للرقم قصة.. كان فيه مؤتمر فى ميدان عابدين، وفى خطاب عبدالناصر قال: عزيز صدقى بيقول إنه اتبنى ألف مصنع، وأطلب منه ينشر بيانا بالمصانع اللى اتعملت.. وبالفعل نفذنا ما قاله ونشرنا بيانا باسم كل مصنع وتاريخه ومكانه وتكاليفه، وأهدافه، واتضح أنها أكثر من ألف».