كان الوقت صباح يوم 9 يناير، مثل هذا اليوم، 1960، حين وصل الرئيس جمال عبدالناصر والعاهل المغربى السلطان محمد الخامس والرئيس السورى شكرى القوتلى، إلى أسوان، لوضع حجر أساس السد العالى، وسط حشد من آلاف المواطنين وكبار رجال الدولة، و300 مصور وصحفى مصرى وعربى وعالمى، وصلوا إلى أسوان فى قطارين خاصين، يوم 8 يناير 1960، حسبما يذكر الكاتبان محمد الشافعى، ومحمد يوسف، فى كتابهما «السد العالى، هرم الإرادة المصرية».
شارك فى الحدث وفد سوفيتى وصل إلى القاهرة، فى الأول من يناير، برئاسة وزير القوى المحركة، وضم سبعة من كبار خبراء السدود والمشروعات المائية، وسافر إلى أسوان يوم 7 يناير 1960 بصحبة الوفد المصرى المكون من الدكتور عبدالمنعم القيسونى، وزير الاقتصاد، والدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة، والمهندس صدقى سليمان رئيس مجلس إدارة المؤسسة الاقتصادية ووزير السد العالى بعد ذلك، وسعد عفرة مدير مصلحة الاستعلامات.
كان الحدث تتويجًا للإرادة المصرية التى صممت على تنفيذ المشروع رغم رفض أمريكا والبنك الدولى المساهمة فى تمويله، وشهدت فصوله قرار تأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956، والعدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل»، ضد مصر منذ يوم 29 أكتوبر 1956، وأدى الانسحاب الغربى من المشروع إلى دخول الاتحاد السوفيتى فيه بالتمويل، حيث تم توقيع اتفاقية بين القاهرة وموسكو فى ديسمبر 1958، لإقراض مصر مبلغ 400 مليون روبل «العملة الروسية» لتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع السد، ويسدد على اثنى عشر قسطا سنويا متساويا يبدأ بعد عام من إتمام المرحلة الأولى وملء الخزان بحيث لا يتأخر ذلك عن أول يناير 1964، ويكون سعر فائدة القرض 2.5% سنويًا، وتسرى الفوائد من تاريخ استخدام كل جزء من القروض، على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالى للعام الذى استحقت فيه، وشملت هذه الاتفاقية تقديم الآلات والمعدات والخبراء والفنيين والأبحاث والدراسات اللازمة.
يذكر «الشافعى ويوسف»، أنه قبل قيام عبدالناصر بوضع حجر الأساس، أنجز مئات العمال والمهندسين ست فتحات عميقة تشبه الأنفاق فى الجبل القريب من منطقة اسمها «خوركوندى»، وقاموا بملئها بحوالى تسعة أطنان من المتفجرات، وأطلق عبدالناصر الشرارة الأولى لتفجيرها.
كان الانفجار عظيمًا، زلزل الجبل زلزالًا شديدًا، تطاير فى أعقابه نحو عشرين ألف طن من الصخور الجرانيتية، واحتوى حجر الأساس على صندوق خشبى بداخله مصحف شريف ولائحة الهيئة العامة لبناء السد، والصحف العربية الصادرة فى نفس اليوم، إلى جانب عملات مصرية كانت فى جيب عبدالناصر، عبارة عن 39 جنيهًا و24 قرشًا، وعملة مغربية واحدة وضعها العاهل المغربى محمد الخامس، وعملة سورية وضعها شكرى القوتلى.
كان الوجه العروبى فى افتتاح المشروع لافتًا، وبدا ذلك فى مشاركة العاهل المغربى محمد الخامس، وشكرى القوتلى الرئيس السورى للإقليم الشمالى فى دولة الوحدة التى تضم مصر وسوريا «الجمهورية العربية المتحدة»، والأهم هو خطاب عبدالناصر الذى قدم فيه المشروع باعتباره حلما عربيا: «الحمد لله، هذا هو السد العالى.. سدكم العالى الذى طال انتظاركم له وعملكم من أجله.. هذا هو السد العالى الذى كافحت الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها لتراه يتحقق».
هذا هو السد العالى الذى دارت من حوله المعارك.. وحارب من أجله الأبطال.. هذا هو السد العالى الذى شهد كل هذا الكفاح واستحق كل هذا الكفاح.. لا بسبب قيمته الذاتية فحسب بل لأنه أصبح كرمز لتصميم الأمة العربية كلها على أن تسير فى بناء وطنها الكبير المتحرر.. إن الذين حاربوا أيها الأخوة ليحققوا الأمل والذين كافحوا ليحولوا الأمل إلى حقيقة والذين لم ترهبهم النار والحديد.. لم يفعلوا ذلك كله لمجرد استخلاص مليون أو مليونى فدان من براثن الصحراء فحسب.. ولا لمجرد الحصول على عشرة ملايين كيلووات من الكهرباء فحسب..إنما فعلوا ذلك تحقيقا لإرادتهم المستقلة التى انتزعوها انتزاعا من قبضة الطغيان والاحتلال والاستبداد والسيطرة.
وما من شك أيها الأخوة.. أن الأرض الجديدة التى سنحصل عليها من السد العالى هدف بالغ الأهمية.. كذلك ما من شك أن طاقة الكهرباء التى سنحصل عليها من السد العالى أمر بالغ الأهمية.. ولكن القيمة الكبرى للسد العالى هى العزم والإرادة والتصميم.. قيمته الكبرى أنه عزم أصحابه بعد أن استبانوا طريقهم وعرفوه، وصمموا على أن تكون العزة والكرامة طريقهم لا الضعف والتخاذل.
واستمر الحدث فى اليوم التالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة