- الدول العربية تعتمد فى توفير سلعها الأساسية على الاستيراد بنسبة تزيد على 50%
لا يمكن غض الطرف عن الأزمة العالمية التى تعانى منها كل الاقتصاديات الآن، والتى تسببت فى ارتفاعات كبيرة فى أسعار السلع سواء الغذائية منها أو السلع الأخرى، إضافة إلى ارتفاعات كبيرة فى أسعار الطاقة خاصة فى أوروبا، مع استمرار التوقعات بأن الأزمة ستصل إلى جميع الدول بما فى ذلك الدول العربية، مع حدوث خلل فى سلاسل التوريد والإمداد، إضافة إلى الارتفاعات الكبيرة فى تكاليف الشحن.
كيف بدأت الأزمة إذًا، وإلى أى مدى سيؤثر التضخم على الدول؟ البداية كانت مع الخلل الواضح فى عمليات التوريد مع انتشار فيروس كورونا، حيث خفضت كل المصانع والدول طاقاتها الإنتاجية فى ظل تراجع كبير فى الطلب على السلع والطاقة بكل أشكالها مع استمرار الإغلاق الاقتصادى جراء الجائحة، وهذا تسبب فى تراجع النفط إلى مستويات هى الأدنى له خلال مايو 2020 فى العقود الآجلة، ومع العودة إلى الأنشطة الاقتصادية بعد تمكن الدول من التوسع فى أنشطة تلقيح ضد كورونا، بدأ الطلب يرتفع بقوة على السلع والطاقة وهنا بدأت تظهر الأزمة.
الأزمة العالمية الحالية التى ظهرت نتيجة الخلل فى سلاسل التوريد والإمداد تسببت فى ارتفاعات كبيرة سواء فى الطاقة أو السلع الأخرى، فمثلا أسعار الغاز الطبيعى فى أوروبا سجلت ارتفاعات 500% فى حين ارتفعت سلع بنسبة 15 إلى 30% فى بعض الدول، وهنا تشير توقعات مراقبى الأسواق إلى استمرار الأزمة وارتفاع نسب التضخم لمستويات قياسية قد تصل بالعالم إلى ما يسمى الركود التضخمى وهو الخطر الأكبر الذى يهدد كل الدول.
القلق المتنامى من خطر التضخم دفع متخصصين فى «دويتشه بنك» من إطلاق تحذيرات من حدوث أزمة اقتصادية عالمية قريبا، أو فى عام 2023 بسبب الآثار السلبية المحتملة للتضخم، فالخطة التى ينتهجها بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى بعدم تشديد سياسته النقدية ومواصلة السياسة التحفيزية وسط ارتفاع التضخم يمكن أن «تتسبب فى ركود ضخم، وتطلق سلسلة من الضوائق المالية فى أنحاء العالم، لا سيما الأسواق الناشئة»، لكن معظم العاملين فى «وول ستريت» يؤيدون وجهة نظر الاحتياطى الفيدرالى بأن الضغوط التضخمية الحالية ليست دائمة، وهو ما يدفع البنوك المركزية على مستوى العالم إلى ترقب الأسعار استعدادًا لقرارات خاصة بأسعار الفائدة.
وكشف تقرير حديث لوكالة «بلومبيرج»، أن الأسواق الناشئة التى شددت سياساتها النقدية لكبح التضخم ستجنى ثمار ذلك من المستثمرين الأجانب، الذين يراقبون المخاطر المحتملة مستقبلاً مع نمو ضغوط الأسعار، فيما يحاول مسؤولو البنوك المركزية فى الدول النامية إحداث توازن دقيق بين دعم اقتصاداتهم، التى لا يزال الكثير منها يواجه الجائحة، والسيطرة على التضخم، الذى قد يصبح تهديدًا حقيقيًا بفضل الانتعاش الاقتصادى القوى وحزم التحفيز المالى الضخمة فى الاقتصادات المتقدمة.
وفق التقرير، فإن «المستثمرين سيفضلون تلك الدول التى تستبق فيها البنوك المركزية التضخم»، مشددًا على أهمية أن تتحرك البنوك المركزية بشكل استباقى حتى لا يعود التضخم إلى معدلات منتصف العام الماضى، وتتعرض البنوك المركزية لضغوط الانكماش وتراجع الناتج المحلى الإجمالى، وفى الوقت نفسه تكون مطالبة بتوفير ما يلزم لإطلاق خطط تحفيز جديدة بمبالغ ضخمة.
التشابك الواضح بين الدول فى الأزمة الحالية، يجعل البنوك المركزية تجرى حسابات معقدة لاتخاذ قرارات مناسبة بشأن مستقبل أسعار الفائدة، لإيجاد أفضل السبل للخروج من الأزمة الحالية، وفى نفس السياق الأسواق تتعرض لضرر واضح جراء النقص فى الخامات اللازمة لعمليات الإنتاج، وهذا يعنى مزيدا من الارتفاعات فى الأسعار العالمية الفترة المقبلة وصعودا مستمرا لمؤشر التضخم.
متى تنتهى أزمة التضخم وارتفاع الأسعار العالمية؟
متى تختفى الأزمة أو تتلاشى نتائجها؟ حتى هذه اللحظة ترى بلومبرج أنه لا توجد دلائل على أن التضخم سيختفى قريبًا وسط أزمات سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع أسعار السلع الأولية، وزيادة الطلب بعد انتهاء الإغلاق، واستمرار عمليات التحفيز النقدى، ونقص الأيدى العاملة، مما يزيد مهمة صناع القرار تعقيدًا، هو احتمال تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد، الأمر الذى دفع بعضهم إلى التحذير من تَشكُّل بيئة اقتصادية تتسم بالركود التضخمى وهو ما وضع قادة البنوك المركزية فى مأزق، إذ يتناقشون حول أى الأخطار التى لها الأولوية فى المواجهة، فاستهداف التضخم بتطبيق سياسة نقدية متشددة يضيف ضغوطًا على الاقتصاد، ومحاولة تحفيز الطلب، ربما تؤدى إلى مزيد من اشتعال الأسعار، وفى هذه اللحظة يشعر كثير من قادة البنوك المركزية أن خطر ارتفاع التضخم استمر أكثر مما توقع معظمهم.
التضخم فى البلاد العربية
نشر صندوق النقد العربى نسخته الرابعة عشر من تقرير «آفاق الاقتصاد العربى» عن الأداء الاقتصادى للدول العربية، حيث شمل التقرير توقعات بتأثر المستوى العام للأسعار بالدول العربية فى عامى 2021 و2022، ويعود ذلك نسبة لاستمرار الآثار الناتجة عن تفشى جائحة كورونا وتأثيراتها المباشرة على سلاسل الإنتاج والتوزيع والأسعار العالمية للمواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية وبشكل خاص النفط، إضافة إلى أثر الإجراءات الصحية المبنية على النشاط الاقتصادى ومستويات العرض والطلب.
ويشمل التقرير توقعات بأن التخفيف التدريجى للقيود والانتعاش التدريجى للنشاط الاقتصادى سيعمل على رفع مستويات الطلب فى بعض الدول العربية، والذى سيؤدى بالتالى إلى زيادة فى مستويات التضخم، إضافة إلى توقعات بتأثر المستوى العام للأسعار بالتحديات التى سيواجهها سعر صرف العملة المحلية فى بعض الدول كنتيجة لتراجع المتحصلات من النقد الأجنبى، وتشير التوقعات إلى تأثر المستوى العام للأسعار بأثر التقلبات المناخية على المحاصيل الزراعية، مما سيؤثر بالتالى على حجم العروض من السلع الغذائية ومن ثم الأسعار فى السوق المحلية.
وتعتبر الأسواق العربية من أكثر الدول النامية ارتباطا بالتجارة العالمية، لذلك فهى عرضة للتأثر بقوة بأزمة ارتفاع الأسعار العالمية، مع استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج وتضرر حركة التجارة، ونظرًا لأن الدول العربية تعتمد غالبيتها فى توفير سلعها الأساسية على الاستيراد بنسبة تزيد على 50%، وقد أدى تراجع أسعار النفط والمواد الأولية التى تشكل ما يزيد على 70% من الصادرات إلى ارتفاع العجز المزمن فى الموازنات الحكومية والموازين التجارية، إضافة إلى تراكم المديونية التى زاد حجمها فى بلد كلبنان مثلا على 150% من الناتج المحلى الإجمالى، فى حين وصلت هذه النسبة إلى نحو 90% فى الأردن خلال العام الماضى حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية، وهو الأمر الذى قلص من الاحتياطات النقدية بالعملات الصعبة وأدى إلى تراجع قيمة العملة الوطنية كما هو عليه الحال أيضا فى بلدان كالعراق والجزائر.
وفى تونس أدى تراجع السياحة كأحد القطاعات الرئيسية فى البلاد بشكل دراماتيكى إلى نتائج مماثلة، ومع استمرار الأزمة العالمية ستشهد تونس تداعيات أكبر مع ارتفاع أسعار السلع العالمية التى تعتمد تونس على جزء كبير منها من خلال الاستيراد، أما دول الخليج فقد اضطرت إلى زيادة سحوباتها من احتياطاتها المالية لسد العجز فى موازناتها والاستمرار فى دعم أسعار السلع الأساسية ولو بشكل أقل من قبل لمنع تدهور القوة الشرائية، وفى الدول العربية الأخرى شهد هذا الدعم تراجعا أكبر بحيث أضحى متركزا على الخبز والزيت والأرز.
مصر ليست بعيدة عن الأزمة العالمية، حيث سجلت معدلات التضخم فى مصر أعلى معدل لها على أساس سنوى فى عام 2021، فيما يتوقع مراقبون أن تستمر معدلات التضخم فى الارتفاع خلال نوفمبر 2021، وذلك على خلفية ارتفاع الأسعار العالمية للنفط ولكل السلع، وبحسب نشرة التضخم الشهرية الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، فقد ارتفع التضخم الشهرى فى مصر بنسبة 1.6 فى المئة فى سبتمبر الماضى، قياسًا بشهر أغسطس الماضى، فيما سجل التضخم على أساس سنوى أعلى معدلاته لعام 2021، حيث بلغ فى سبتمبر الماضى 8% مقابل 3.3% فى سبتمبر 2020.
أخيرًا لجأت لجنة السياسة النقدية للبنك المركزى المصرى فى اجتماعها، بتاريخ 28 أكتوبر 2021، للإبقاء على سعر عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزى عند مستوى 8.25% و9.25% و8.75% على الترتيب، وكذلك الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 8.75%.
وارتفع المعدل السنوى للتضخم العام فى الحضر ليسجل 6.6% فى سبتمبر 2021 من 5.7% فى أغسطس 2021. وفى ذات الوقت، ارتفع المعدل السنوى للتضخم الأساسى فى سبتمبر 2021 ليسجل 4.8% من 4.5% فى أغسطس 2021. ويأتى الارتفاع فى المعدلات السنوية للتضخم العام خلال سبتمبر 2021 نتيجة التأثير السلبى لفترة الأساس كما كان متوقعًا، بالإضافة إلى الارتفاعات الشهرية خاصة ارتفاع أسعار الطماطم، ويرجع الارتفاع فى المعدل السنوى للتضخم العام فى سبتمبر 2021 إلى ارتفاع المساهمة السنوية للسلع الغذائية بشكل أساسى، حيث ارتفع المعدل السنوى لتضخم السلع الغذائية للشهر الخامس على التوالى إلى 10.6% فى سبتمبر 2021 من 6.6% فى أغسطس 2021، وقد حدّ من ذلك جزئيًا انخفاض المعدل السنوى لتضخم السلع غير الغذائية إلى 4.9% فى سبتمبر 2021 من 5.3% فى أغسطس 2021، وهو أدنى معدل مسجل له منذ ديسمبر 2012.
وتشير البيانات إلى أن معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى بلغ 7.7% خلال الربع الثانى من عام 2021 مقارنة بـ2.9% خلال الربع السابق له. وجاء النمو الاقتصادى خلال الربع الثانى من عام 2021 مدفوعًا بالمساهمات الإيجابية لكل من إجمالى الاستثمارات المحلية والاستهلاك. وبحسب قطاعات الاقتصاد المختلفة، فقد ساهم كل من قطاع السياحة، الصناعات التحويلية غير البترولية واستخراجات الغاز الطبيعى بشكل رئيسى فى نمو النشاط الاقتصادى، كما ظل النشاط الاقتصادى للقطاع الخاص المساهم الرئيسى فى نمو الناتج المحلى الإجمالى. ومن ناحية أخرى، سجل معدل البطالة 7.3% خلال الربع الثانى من عام 2021 مقارنة بـ7.4% خلال الربع السابق له، وعلى المدى القريب، من المتوقع أن يسجل النشاط الاقتصادى معدلات نمو مرتفعة مدعومة بالطلب المحلى وكذا التأثير الإيجابى لسنة الأساس.
وعلى الصعيد العالمى، استمر النشاط الاقتصادى فى التعافى من جائحة فيروس كورونا وإن ظهرت بعض مؤشرات التباطؤ نظرًا لاضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، بالإضافة إلى ذلك، يعتمد تعافى النشاط الاقتصادى العالمى على مدى فاعلية اللقاحات وقدرة بعض الدول على احتواء انتشار الجائحة، خاصة فى ظل ظهور سلالات جديدة لفيروس كورونا، وقد استمرت الأوضاع المالية الداعمة للنشاط الاقتصادى العالمى على المدى المتوسط. كما ارتفعت أسعار البترول العالمية مدفوعة بعوامل العرض والطلب معا، فى حين استمرت الأسعار العالمية للسلع الغذائية وبعض المعادن فى الارتفاع وإن كان بدرجة أقل.
وقررت لجنة السياسة النقدية أن أسعار العائد الأساسية لدى البنك المركزى تعد مناسبة فى الوقت الحالى، وتتسق مع تحقيق معدل التضخم المستهدف والبالغ 7% «± 2 نقطة مئوية» فى المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2022، واستقرار الأسعار على المدى المتوسط.